معركة وجوديَّة خوف المؤلف: نحن ندخل البربريَّة

ثقافة 2024/07/25
...


 

 حبيب السامر


للمرة الأولى أجد نفسي قلقاً ومتوجّساً، وأنا أتابع كتاب "الهمجية زمن علم بلا ثقافة" للفيلسوف والروائي الفرنسي ميشيل هنري بترجمة جلال بدلة. 

وهنري (1922- 2002) مفكر في علوم مختلفة كالظواهر والاجتماع والسياسة والفن، وعمل أستاذا في جامعات فرنسية وأجنبية، اشتهر بنقده المستمر للفلسفة الغربية، على الرغم من مرور أكثر من سبعة وثلاثين عاماً على صدوره، وكتب عنه العديد من الدراسات والبحوث، حيث يضعك الكاتب بين فكرتين متوازيتين بحسب أطروحاته التي شملها الكتاب بسبعة فصول تناولت في محاورها الثقافة والهمجية، ومفهوم الحكم على العلم بمعيار الفن، ومساحة العلم بمفرده: التقنية، وأهمية مصادر آفة الحياة، والتركيز على ايديولوجيات الهمجية وممارساتها، والتأكيد على الجامعة ودورها التوعوي.

يشتغل الكاتب على بؤرة مهمة ترتقي بأنموذج الفرد وحياته التي أطلق عليها "الحساسيَّة الفرديَّة" بمفهومها الجوهري وبُعدها الحياتي، والتي تتعاكس وتختلف عن الظواهر الخارجيَّة، إذا كلما ارتفع نجم المعرفة العلمية بشكل مستمر وهي تعلن سيطرتها على مجتمعاتنا المعاصرة لكونها تمثل الحق المشروع والنبيل والأساس في التقنيات، لكن عقدة الكاتب تتلخص في انضوائها تحت خيمة الايديولوجيات التي أفرغتها من محتواها الإنساني ويرافقها اختفاء وأفول الثقافة وهي تستند الى تلك الحساسيّة الذاتيّة واعتمادها على الوعي والروحانيّة والشعور والفن كونها تتطور ويتصاعد ويزداد نبضها مع تدفق الحياة الذي بدوره يصنع التأثر والتأثير والإبداع. ولكن كلما تطورت المعرفة العلميّة الجامدة قابلها التطور المضطرد للطبيعة المادية، ويتشكل الخطر على الثقافة كونها تتعامل مع الحسيات والشعور. 

كتب هنري في مقدمة الكتاب "منذ تشخيص حالة الهمجي، شهدت ظاهرة التدمير الذاتي تكثيفًا جنونيًا. وهي لا تظهر فقط في الشوارع. إنَّ القسوة العدميَّة ضد كل القيم، والاعتذار عن كل ما هو ضد الطبيعة، أي ضد الحياة، يعبران عن ذلك بنجاح بشكل أكبر".

من هنا ينشأ الصراع بين المعرفة المجرّدة والثقافة المتفاعلة وخوف المؤلف من أن يحقق العلم انتصارا على الثقافة مسترشدا بالثورة الغاليلية، نسبة إلى غاليلو التي تجاهلت بعلميتها الصفات الإنسانية التي تنشدها الثقافة، وهي تعني الحركة الدائبة للحياة ومجموع القيم والمثّل الإنسانية، ويتجدد خوفه من انتشار همجية حديثة تترك آثارها المدمّرة للانسانية وتزرع حالات الكراهية والانطواء والاكتئاب والاغتراب، إذ كلما حدث انفجار واكتشاف علمي رافقه بالمقابل خراب الإنسان وكأنَّ هناك مواجهة وجوديّة.

تتواصل الثقافة وتتعاشق مع الحياة من دون انقطاع وتأخذ استمراريتها شكلا هادئا، ويشدد الكاتب على ضرورة زوال الأيديولوجيا المرافقة للعلم وليس العلم المحض 

الذي يسلب الحالات الإنسانيّة جذوتها وديمومتها، لأنَّ العلم مع الأيديولوجيا قد اتخذ شكل الهمجية بعد أن تخلى العلم عن شكله الحقيقي الذي هو من أشكال الثقافة بحسب رأيه.

كما ويركز الكاتب على قضية مهمة تحدث لأول مرة وهي الانفصال بين العلم والثقافة ودخولها في صراع ومعركة وجوديّة، إذ يشهد عصرنا الحالي انفجارًا علميًّا يقابله انهيار الإنسان وتدمير مقومات حياته، وبالمقابل تَداعي الثقافة وأفولها، ويعود هنري بنداء مهم يقتضي بفصل العلم عن الفكر المرافق والمفسّر له، وهو فكر وايديولوجيا مادية همجيّة تختزل الكون في مجموعة من الظواهر المادية وتقتصر في تفسير الحياة على الطرائق الرياضيّة والفيزيائيّة.

هل هناك ما يؤثر في وجود رابط مشترك الثقافة، الهمجية، العلم، التقنية المعاصرة التي يصفها ميشيل هنري بأنّها التطورات المتسارعة في اختصاصات العلم المختلفة بشقيها العلمية البحتة أو الإنسانية التي صارت تستبعد القيم والثقافة عن مضمونها معللًا ذلك بالتزام المنهج العلمي الصارم. ويستخدم الكاتب تسميات عدة "همجية معاصرة" وهي تعاملات تتخذ من الجحود في الحياة وتطلعاتها والتعليم والعدالة بحقوق الانسان وإنكارها المادية المعنوية، هي بحد ذاتها قتل لمعاني الإنسانيّة. أما فكرة "العالم" بحسب هوسرل فهي تتمخّض عن الوضعية العلمية ومن "هندسة الكون" والعبارة الأشد مأساوية "نحن ندخل البربريّة" كما نوّه جوزيف دي ميستر- بالإشارة إلى هنري 

وتركيزه على أنّها خراب يقودنا إلى العدميّة.

لو استعرضنا هذا التباعد الدائم بين العلم المؤدلج المطوّق بالهمجيّة "البربريّة" و "الوحشيّة" التي تخترق مجتمعات العالم بدعوى التحضر، لكنها تدمره والثقافة التي تعتمد الأخلاق في تنضيج العلم الواقعي، وكأنَّ الكاتب بدأ من حيث انتهت الفيلسوفة حنة آرندت في كتابها "أزمة الثقافة" الذي ركز على أن التقدم العلمي سوف يقود إلى تدمير البعد الإنساني، ولم تخلُ أطروحات الكاتب من النقودات التي وجهت له، وشكّلت بحد ذاتها وجهات نظر متباينة وملتبسة حول اعتماده على المضامين والموضوعات اللاهوتية والتغافل عن المفهوم السوسيولوجي للثقافة وأبواب عدة، كما تناولته مصادر مختلفة.