د.عواطف نعيم*
من فضاء منتدى المسرح التجريبي انطلق العرض التفاعلي "التابعة" لمؤلفه ومخرجه الفنان باسم الطيب، والذي سبق له وخاض تجربة مشابهة وهي مسرحية "أعزيزه" وكانت مميزة، عمد المخرج في "التابعة" إلى محاورة فضاء منتدى المسرح، وهو بيت تراثي يقع على نهر دجلة وينفتح على تجارب مسرحية متنوعة بمختلف تجلياتها بما يحويه من معمار يعد فضاءَ الحوش المفتوح جزءاً منه، عمد الطيب إلى محاورة هذا المعمار محولا إيّاه إلى مطعم ومرقص بتوزيع الموائد والكراسي في جلسات متجاورة ومتداخلة مع وجود فرقة موسيقية تتوسّط أعلى مكان الفضاء، وضجَّ المكان بإضاءة ملونة على شكل شبكة تعلو فضاء المكان وجوانبه وتضفي جواً من البهرجة وتحولات اللون تبعاً لتحولات المكان وانتقالات العرض.
محاورة المكان بتلك الطريقة بثّت إحساساً لدى المتلقي بأنّه يوجد في أحد الملاهي الاوروبية مع وجود فرقة موسيقية كانت تقدم الموسيقى والأغاني الغربية ذات إيقاع سريع وصاخب طيلة فترة العرض وتصمت في لحظات درامية محددة لتمنح الممثلين فرصة التواصل مع زوّار المكان من متلقين طلب منهم في بداية العرض الوقوف عشر دقائق لشرح طبيعة التجربة وتحولاتها، ثم سمح لهم بالجلوس بعد ذلك للتواصل مع حكايات التجربة وأصحابها.
تدور أحداث العرض حول مجموعة من شخوص تتجول بين موائد المتلقين لتحكي لهم عما هو مسكوت عنه، وما هو مرفوض، وما هو مصدر خوف وقلق، وما هو موضع خجل وازدراء لهم وعليهم.. كل له حكايته التي تتبعه مثل قرين ملعون مشاكس ومخادع لا يستطيع المبتلى به مراوغته أو الافلات من تبعيته أو مواجهته. كل له حكاية ولصاحب الحكاية أن يدور بين المتلقين زوار المكان ليبحث من خلالهم عن حل لمشكلته أو مخرج منها أو وسيلة خلاص من تبعاتها أو ليصغي له ذاك المتلقي ويتعاطف، وذلك أضعف ما يمكن الحصول عليه، ولربما هناك من يحتج من المتلقين أو يجادل أو يرفض ولا يتعاطف أو يقتنع وهو أمر متوقع. ميزة المسرح التفاعلي أنّه يخلق حالة من الجدل والصراع والحوار مما يمنح العرض دفقا حيويا وجذبا تواصليا، إذ من دون الحوار والتساؤل والمشاكسة لا يكون هناك حياة للحكايا وسارديها ويسقط العرض في رتابة السرد والتحدث ثم الصمت.
أهم ما يميز هذه التجربة في المسرح هو حداثتها وطريقة الاشتغال على تفاصيلها وتركيبة مشاهدها، ومن ثم مجموعة الشباب المنتمين إليها والذين آمنوا بتلك الحكايا رغم جرأتها ومحاذيرها والحذر من إسقاطاتها، موقنين أن البوح عن الوجع رغم سخونته لهو شفاء وعلاج ناجح وبديل عن الصمت والخوف والانكفاء.
تبدأ الأحداث بدعوة مخاتلة للانتحار تخلّصاً من ذاك القرين التابع وتنتهي باكتشاف أن الحياة لا يمكن أن تقتل أو يتم اغتيالها، لأنها هبة ولأنها نعمة وعلى الجميع الحفاظ عليها وتحدي أسباب انحرافها وتوحّشها.
عرض "التابعة" دعوة للتمسك بالحياة وتقويم الواقع المختل ومحاربة كل ما يمنع الحياة من أن تعاش وأولها آفة المخدرات التي تفتك بالمجتمع وتفكك لحمته وتضعف إرادته ورفض للتقاليد المتخلّفة والأعراف البائدة ونبذ لكل ما هو متطرف وظلامي لا يليق بالإنسان الذي خلقه المولى في أحسن تقويم. قد تكون هناك بعض المآخذ على تخلخل إيقاع العرض وفتور شابّ بعض المشاهد وأفقدها زخم تأثيرها، وقد تكون هناك ملاحظات حول بعض من الممثلين الذين لا يعرفون بطبيعة العرض التفاعلي وغير مُهَيَئين لخوض حوار أو جدل مع المتلقي، فيقصّون الحكاية وينصرفون مسرعين.. لكن رسالة العرض الإنسانيّة والأخلاقيّة منحته وقعه وتأثيره الدراماتيكي الساخن، وخلقت حالة من الشد والترقّب والتشويق ما بين الممثلين والمتلقين وأزاحت من بينهم الحواجز، جامعةً إيَّاهم في لحمةٍ الإصغاء والبوح، مما منح العرض نجاحه وتوهّج حضوره، لا سيما أن هناك عدداً من الممثلين كانوا مفاجأةً ملفتة ومدهشة في العرض، نذكر منهم الفنانين "وسام، وتحسين" في القدرة والموهبة الأدائيّة المتأنية، والشابة "زمن" التي تمتلك مشاعرَ وحضوراً واثقاً لولا ضعف في الصوت تحتاج إلى صقله وإنضاجه. كان الأداء في العرض متناغماً يدل على مواهب وطاقات يحتاج البعض منها إلى دربة وصقل إلّا أنّها مبشّرة ومفرحة ويقف الفنان باسم الطيب قائد الفريق والمشرف على تفاصيل الحكايا وإدارتها في مقدمة الفريق المميز والمنتمي فكراً ووعياً واداءً إلى التجربة وآفاقها بثقة الحريص والعارف بقيمة المسرح وحضوره كمدرسة للفكر النيّر.
* كاتبة ومخرجة مسرحية