النَّص المبطن

ثقافة 2024/07/29
...

  د. كريم شغيدل


   لقد كان النّص الشّعريذ على مدى مراحله انعكاساً حيوياً للعديد من المعطيات الثقافيّة، ففي السبعينيات تراجعت النزعة الوجودية لصالح الحياة اليومية، بدلالة البيان السبعيني الذي سمي (بيان القصيدة اليومية)، لكنَّ التجربة في حقيقة الأمر ولدت متشظَّية، بين شعراء يكتبون قصيدة غاية في البساطة اليومية، وآخرين استغرقوا في التشفير والغموض، بين شعراء ينتجون نصاً منبرياً مؤدلجاً، وآخرين يستمدون رؤاهم من طلاسم السحر وشطحات الصوفية ومزج الفلسفي باليومي، حتى بلغت التجربة السبعينية ذروتها على أيدي شعراء حاولوا كتابة نص متمرد على الأشكال النمطية، كان الأقرب إلى ارهاصات النص الثمانيني وروحه، وهنا لا أعني الأشخاص أو الأجيال، بل أعني الحقبة الثقافية وسياقاتها التي حولت الموقف الرافض للحرب إلى نص مبطن، يتوارى وراء نصوص تهويمية مبنية على تشظّي الصور واشتقاق علاقات لغوية متباعدة جداً، بحيث يصعب على الذائقة التقليدية السائدة استقبالها، بتعبير آخر، إنَّ الوليد الجديد الذي خرج من كونه (قصيدة نثر) ليصبح نصاً مفتوحاً لا حدود له، عجز عن تحقيق مفهوم (التعدي النَّصيّ) بحسب تعبير جيرار جينيت و"هذا التعدي النّصيّ هو الذي نعنيه بمرحلة ما بعد النص، وندعو إلى تأمله وإلى تفحص دلالاته، أملاً في خلق قاعدة ذوقية مزدوجة للعناية به: ركناها الشاعر والقارئ فهما مسؤولان عن إنتاج النص (كتابته) واستهلاكه (تلقيه) لذا فهما- الشاعر والقارئ- مدعوان إلى العناية بما (بعد) النص" إذ تخلى النص الجديد عن جميع العوامل الشفاهية التي تجعل الشعر مسموعاً، وعن جميع محفزات الانفعال المنبري الذي تحققه القصيدة العمودية.

            لا يمكن القول إنَّ التجربة الثمانينية هي نتاج الحرب فحسب، إنما ثمة مؤثرات وسياقات ثقافية تنامت منذ أواخر السبعينيات، ولعلَّ أبرزها انفتاح الترجمة على أنماط شعريَّة وفكريَّة مختلفة، فرنسيّة وألمانيّة وإسبانيّة وأميركية شماليَّة وجنوبيَّة، كتجارب بودلير، وفيرلين، ورامبو، وسان جون بيرس، وجاك بريفير، وهنري ميشو، وألان بوسكيه، وريلكه، ونيتشه، ووالت ويتمان، ولوركا وأوكتوفيو باث وغيرهم، أي الخروج على الطابع المحافظ للثقافة الإنجليزية التي كانت تهيمن على حركة الترجمة، ومن ثم الانفتاح أكثر على التجارب العربية، لا سيما أجواء التجربة اللبنانية التي مثلت بلاد الشام عامة، وأنتجت تجارب مغايرة، كتجربة أدونيس (شعراً وفكراً وتنظيراً) وأنسي الحاج وتوفيق صايغ ويوسف الخال ومحمد الماغوط وسليم بركات وغيرهم وتجربة مجلة (شعر) اللبنانية عموماً، كذلك التواصل مع الأجواء السبعينية ذات الفوران الثقافي العربي، عقب نكسة حزيران، وترديات المشروع القومي العربي، ومن ثم اتفاقية (كامب ديفيد) التي شكلت نهاية للشعارات القومية، وصفحة جديدة لتأطير الصراع العربي الإسرائيلي، واختلال معايير الحرب والسلام، وأدبيات القضية الفلسطينية، وخلفيات سياسية واجتماعية واقتصادية عديدة، جعلت من الرؤية الشعرية مشوشة ذلك "أن الشعر ينبع من المخيلة، ويحور صور الأشياء طبقاً لرغائب الفكر" كما يقول بيكون، ونرى أنَّ كلَّ تلك العوامل كانت حاضرة ومؤثرة إلى جانب معادلة جديدة لصراع إقليمي جديد نشب على الحدود العراقية الإيرانية، وأرادت له الآلة الإعلامية للنظام السابق أن يتخذ طابعاً إقليمياً بديلاً عن الصراع العربي الإسرائيلي، وقد توفرت لذلك عدة ظروف، منها الدعم الخليجي واغتيال الرئيس المصري أنور السادات ومن ثم كسب موقف النظام المصري الجديد.

        كانت تلك متغيرات حادة انعكست على النص الثقافي، فاختلال المعايير يولد نوعاً من القلق الوجودي، والشعور بالهزيمة يولد نوعاً من الاحباط وفقدان الثقة بالوجود، فضلاً عن أنَّ الأجواء الثقافية عموماً كانت تمهد إلى نزعات العبث والتمرد واللامعقول التي أنتجتها الثقافة الأوروبية عقب الحرب العالمية الثانية، إذ " لا يفهم النص إلا بوضعه في سياقه الاجتماعي والتاريخي" بحسب مفهوم البنية التكاملية عند لوسيان جولدمان، ومن هنا نجد أنَّ النص الأدبي يشكِّل واقعة ثقافية، وليس نصاً جمالياً فقط، كما يرى عبد الله الغذامي في تبنيه لمفهوم النسقية في النقد الثقافي.

          لقد جاء النص الثمانيني متصادياً مع رطانة الخطاب التي سادت بعد هيمنة ظلال الحرب، فثمة أناشيد تصدح لتمجيد الموت وتجميل صور الخراب، شعر منبري، عامي وفصيح، يعيدنا إلى أمجاد داحس والغبراء، وبيانات عسكرية تعدُّ الموتى بالآلاف، وطائرات وصواريخ تقصف وتنهال على المدن، ومواطنون يلقى بهم على الحدود، وحملات ملاحقة أمنية، ولون عسكري مخيف يقلق البنية البصرية للشارع العراقي، في واحدة من أسوأ مظاهر عسكرة البلد، وتسخير الحياة بكل مفاصلها للحرب، كلُّ هذا يحدث فجأة من دون سابق إنذار، ليشكِّل صدمة للوعي، إلى جانب توافد العمالة الخارجية، عربية وأجنبية، لسدِّ الفراغ الاجتماعي والاقتصادي، الذي سببه سوق آلاف المواطنين إلى جبهات القتال، وأولئك طبعاً، لم يحققوا تمازجاً ثقافياً نوعياً، بل شوهوا هوية الشارع العراقي، لا سيما الجانب الاجتماعي منه، طبيعة المهن، تقاليد الطعام، اللغة عموماً، بحيث أصبحنا وسط ظاهرة صوتية فريدة من نوعها، هي مزيج من لغات ولهجات مختلفة، تتحول عند الإنصات إليها إلى رطانة مشوشة للبنية السمعية للمواطن العراقي، وهذه الرطانة قد انعكست بصورة غطاء ثقافي لتمرير المواقف الرافضة للحرب، وهنا أتيحت الفرصة لاستدعاء الصوفي والمعرفي والمثاقفة والتلاعب بالألفاظ والسياقات النحوية، وسط دعوات تفجير اللغة، وتشظية علاقات الجملة النحوية، والإيحاء والإشراق والترميز والتشفير، والانحياز الثقافي لرمزيات الهويات الفرعية وما شاكل ذلك، فوجدنا أنفسنا أمام نص يبتعد مسافة شاسعة عن نمطية الأشكال الشعرية، نص متحرر تماماً من جميع اللوازم الشعرية التقليدية المتوارثة والمحدثة السائدة على حد سواء، تتشابك فيه الجمل وتتقاطع الصور، وتتهدم فيه سياقات الخطاب الشعري لصالح السرد والانثيالات الحرة، والانتقال من سياق إلى آخر، وصف بأنَّه نص شائك ومعقد العلاقات، وأحياناً هو نوع من الهذيان المجاني والتداعي الحر غير المنضبط.