حضور المكان وغيابه في السَّرد العراقيّ

ثقافة 2024/07/31
...

  صلاح السيلاوي 

يمتلك المكان في العراق طاقة رمزيَّة عاليَّة، فالبنايات القديمة التي تطل على شرفات الزمان في آشور وبابل، وأور ونفّر، تزدحم بطاقة التواريخ والشعوب، تلك الشعوب التي تشغل أذهان الباحثين عن أسرار الماضي ومنجزاته، تزدحم بأسماء الملوك وأساطيرهم ، وخطى الجنود وأحلام الإمبراطوريات. 

البيوت القديمة والحديثة على شط العرب ودجلة والفرات، القرى المتعانقة مع رؤوس النخيل العاليّة، في البساتين المتدفقة إلى أباعد الخصب والكلام، المدن التي تتنفس جريان الانهار وحفيف الشجر، الأهوار التي مازالت المشاحيف تشق موجها منذ فجر التاريخ. 

الأمكنة علامات دالة على ثقافات متعددة، كنوز لا تعطي أسرارها إلا للعارفين، ذهب يصافح الشّمس والرياح، ليقول لصاغة المعاني وجوده وذاته الثَّمينة، طين أثمن من اللغة لأنه يختزنها ويختزلها، تمر الأزمنة عليه فيحتفظ بدقائقها وأعمار أهلها، كأنه يحتفظ بأصوات الاسلاف، حتى أن السّارد يسمع في أزقة المدن القديمة غناء الأمهات الاكديات على الضفاف، أو رثائهن على الأسوار، أمكنة تدور بين سطور الكتب المقدسة وشفاه الانبياء وقلوب القديسين وعيون القادة والحالمين بالسلطة والجمال، أمكنة الرايات المرفوعة والحصون العالية، القباب الحزينة والسّاطعة، أمكنة الايام المترامية على طرق الموت والمباهج والعشق والشَّعر والملاحم.  

كل تلك الأمكنة وطاقاتها الايجابية أو السلبية أيضا، في أي السطور تشع؟ أين تلك الأمكنة وكنوزها التاريخية والمعرفية في السّرد العراقي؟ ما رأي المختصين بأهميتها؟ وهل عبّرَ السردُ عن خصوصيةٍ مكانيةٍ معينة؟ هل قدّمَ ميزات مختلفة، مثل علاقة المكان بالأثر، بالمنجزات الثقافية للحضارات القديمة؟ وماذا عن نياشين الحروب في الأمكنة؟ وما الذي يراه المختصون واضحا في السّرد من المميزات الجغرافية للمكان من جبل وسهل وأهوار وأنهار  وصحراء وأرياف؟ أيمكن أن نستدل على سرد قدمَ لنا أمكنة حفزت الكاتب على تناولها قصصيا ؟ ماذا عن علاقة المنجز السّردي للكاتب بالمكان؟


أهم عناصر المرويات  

القاص والروائي عباس خلف علي، تحدث عن المكان وعلاقته بحياتنا وذاكرتنا، بوصفه أحد أهم عناصر المرويات، فضلا عن ارتباطه بالسّرد واقعا وخيالا، مارا بعد ذلك بعلاقة الكاتب بالمكان عبر طفولته ومراحل حياته الأخرى، إذ يذهب إلى كيفية تحوله إلى ذكرى، أو إلى صورة ذهنيّة حيّة وناطقة، مشيرا إلى حضوره في السرديَّة العراقيّة حضورا أساسيا.                                 

وتكلم علي عن المكان بوصفه جزءا موصولا بالحياة، محصنا بذاكرتها، بوصفه حيزا تستند عليه كل مجريات الأحداث، ولذا يعده من أهم عناصر المرويات في النص عبر تبادل رسائله مع المتلقي من حين إلى آخر.

وأضاف متسائلا: نتساءل هل المكان  يتجسد من الواقع  شكلا ومضمونا أم يتكون من الملامح ‘ أي من الحقيقة أم من الخيال أو هو تعبير عن رؤيا تتخلق منها يوتوبيا منسوجة مادتها من الحلم، أم أن المكان فضاء دلالي ورمز يوحي دائما لنا بأنه يمنحنا السكينة الروحية التي تسرقها منا الحياة العصريّة لتصبح مقولة المتنبي شاهدا على أن "أعز مكان في الدنى سرج سابح" أم قول ابي تمام "كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل". ليتحول المنزل هنا إلى مكان ذكروي تحاصره ملامح الصبا والنزق الطفولي وأشياء تسيطر عليها موضوعات الجن والخرافة ليصبح لدينا شكل المكان ذهنيا يتجسد في لوحة يمكن أن نصفها برومانسيّة الطفولة التي تشدنا إلى أوصالها كلما قادتنا الحياة وأبعدتنا عنها، فإذا كان المكان يتنقل ما بين الحقيقة والخيال والحلم والذاكرة والواقع فكيف يمكن النظر إلى هذه العلاقة من زاوية استثمارها في النص كعالم تنبض به الحياة.

وقال علي أيضا: المكان لعب دورا أساسيا في السرديّة العراقيّة، ليس لأنه يؤثث علاقة جدليّة متأصلة مثل (الشخصية، الهوية، الغيرية، الذات) بل لتميز المكان بمؤثراته الحسيّة والماديّة امتدادا من الهور والمسطحات المائيّة والخنادق والمواضع والسجون والحروب والسراديب والحانات والخلوات والجبال والصحاري والشناشيل والأبواب المرصعة بالفضة والقباب والمآذن، بل تمتد هذه العلاقة إلى عمق التاريخ  حيث كانت دلالة المكان إيحائية جدا ومحفزة على الكتابة، كما نجد ذلك في أعمال سردية منها "عموراتي" لعمار أحمد،  و"كور بابل" لكاتب السطور، و"مدينة الحجر" لزيد الشهيد، و"لغة الأرض" لعلي حسين عبيد، و"الموت سحرا" لأبراهيم سبتي، و"اربعاء " لعبدالإله عبدالرزاق، و"مصاطب الآلهة" لمحمود جنداري، ولا يمكن أن ننسى قصة "ساعات كالخيول" لمحمد خضير التي ربطت بين رمزية الفاو في بعدها الزمني  ورحلة الساعاتي في بعدها المشهدي وتفاعلهما في تسليط الضوء على عالم الحكاية المستنبطة من هذا الجو المركب، وهذا يعني أن السارد العراقي متخم بالإرث التاريخي والاجتماعي والسياسي والديني وجميعها شواهد تغني الأثر الابداعي وتثريه بالحكايات، صحيح؛ احيانا تغريه بالكتابة عنها ويمكن أن يكون ذلك الإغراء فخا بحد ذاته إذا لم توظف عناصر السّرد في الحكي والقص والروي توظيفا فنيا موازيا لبعد المكان وتأثيره وإلا يكون تبادله مع الواقع سلعة بسلعة.

أما بالنسبة لي كسارد لا أنكر بأن تلك الشواهد على دلالة المكان هي المرجع الحقيقي لمعظم كتاباتي التي ما تزال تمتحن بأسئلة المدينة بعمقها المراوغ معي في بلوغ السمات الحقيقية لها.  


مكان معوم وفكرة ايديولجية

القاص عبد الأمير المجر، يرى أن السؤال عن المكان هنا سؤال كبير، لأنه من الصعب أن يلمّ أي قارئ سواء كان أديبا أو قارئا عاديا بالمشهد الادبي العراقي بشكل يجعله يعطي اجابة حاسمة، مشيرا إلى أن الأمر يبقى في حدود القراءة ومساحة الاطلاع. 

ثم قال المجر موضحا: بالنسبة لي وعلى الرغم من كوني أديبا، لكني لم اطلع على الكثير من النتاج الأدبي العراقي، ولذا ستكون اجابتي محصورة بما قرأته أو اطلعت عليه.. واجد أن المكان في السّرد العراقي معوّم غالبا لصالح الفكرة التي هي أيضا في الغالب (ايديولوجية) أو بجوارها، بمعنى أن الاديب العراقي يشغله الهم العام، لاسيما ما يكون منه اسقاطا للسياسة، كالحروب والصراعات الحزبية وحتى الاجتماعية، إذ يراها الاديب العراقي افرازا لذلك، ومن هنا فإن المكان والاعتناء به والاشتغال عليه هو الأقل في النتاج العراقي. 

وأضاف أيضا: نعم ظهرت لدينا أعمال أدبيّة تحدثت عن أمكنة معينة، لكن ليس بقصد ابرازها كأمكنة والحفر في خلفياتها، وإنما للاشتغال على احداث معينة مرت بها أو دارت حولها.. لقد توزعت ثيم  الأدب العراقي على حقب متتالية، وكل حقبة تركت لمستها أو صورتها عليه، ففي العهد الملكي وبدايات تشكل الوعي السياسي، كانت هموم الإنسان، الفلاح والعامل تتصدر اهتمامات الأدباء وهم يتناولون قضايا المجتمع، ثم جاءت المرحلة الاكثر (ثورية) بعد الحرب العالمية الثانية، فانشغل الأدباء بحمل رايات الايديولوجيات المتصارعة وانغمسوا بذلك، ثم جاءت الثيمة الاكثر حدّة وهي الحرب والحصار التي أكلت الكثير من النتاج العراقي، قبل أن يأتي الاحتلال وتداعياته الإنسانيّة والثقافيّة وكذلك الارهاب ما جعل الأدب العراقي ينفتح أكثر لكنه لم يخرج تماما عن اسار تلك الاحداث وفضاءاتها المتناشزة والمتداخلة في الوقت نفسه.. لكن هذا لا يعني عدم وجود نتاج اعتنى بالمكان أو اشتغل عليه وجعله بطلا لعمله، لكن هذا النتاج هو الأقل والأندر.. حسب اعتقادي! 


قوة إضافية وبعد معرفي 

القاص والروائي إبراهيم سبتي، يجد أن المكان يشكل في النّص السّردي، قوة إضافية لعناصر السرد الأخرى وهو المخوّل الوحيد الذي يستطيع توجيه مسارات السرد ويرسم تمظهراته داخل النّص.  

ويذهب سبتي إلى أن المكان يمنح النص بُعداً معرفياً نابعاً من علاقة الشخصيات بالتاريخ المتمثل بالماضي أو حتى أنه يلامس الحاضر باعتباره يستطيع نقل الكاتب من المكان الواقعي المحدود والثابت بتفاصيله الذي يعيشه إلى المكان الخيالي المفتوح الذي يحتاجه النص إلى التوسع في اللغة ومجريات السّرد عامة. 

وأضاف مبينا: اعتقد بأن غاستون باشلار في كتابه "جماليات المكان"، أوضح الفرق الواضح بين المكان الواقعي والمكان المتخيّل الذي يفترضه الكاتب، واعتبر أن المكان هو الحيز المتاح للكاتب ليمارس فيه أحلام اليقظة والتصورات التي لا يسمح بإظهارها أي عنصر آخر سوى المكان. 

في السّرد العراقي، كان الاهتمام واضحاً بالمكان بإعتباره الدافع المحرّك للأحداث كما نجد ذلك في روايات فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان، إذ اعتبرا أن المكان الواقعي هو الحيز الإيجابي لأعمالهما، وقد لعبت به الشخصيات ادواراً جسّدت المرحلة التاريخية المهمة التي صارت ذاكرة الماضي المغلفة بنكهة المكان. وهو ما جعل الكتاب يقتربون أكثر في نصوصهم من تجسيد المكان كرابط حيوي للأحداث، بل صار كالقلب حينما يمنح الحياة. 

إن المكان العراقي الواقعي يمكن الإستفادة منه كثيرا، إن وظّفه الكاتب مع جرعة من الخيال الزاخر بالتنويعات والأشياء التي تنقلنا إلى عوالم رحبة مترعة بالجمال. شخصياً كنت أميل كثيراً لجعل المكان نقطة انطلاق للأحداث في أعمالي الروائية والقصصيّة، بل في بعضها كان هو المهيمن كما في رواية "قصر الثعلب" ورواية "ضحكة موزارت". فمثّل المكان شجرة مثمرة تُعطي ثمارها للكل وبدا اساس السّرد الذي امتزج فيه الواقعي المعروف والحقيقي، بالخيالي والمفتوح على أفق أوسع لكي تسجّل الأحداث حضورا طاغياً ودفقاً مملوءاً بالدهشة والإبهار. 

المكان في مروياتنا هو أصل الحدث وبالتالي هو المهيمن الذي ترتبط به مصائر الشخصيات لأنه المنبع الذي يشكل نقطة الشروع للأحداث التي تنطلق منه. مع أن المكان الخيالي دائما ما يذهب بعيداً في الوصف اللامحدود لأنه غير معروف جغرافياً عكس المكان الجغرافي الذي يحتفظ بمميزاته وخصائصه. في السّرد وخاصة الروائي تكون الاحداث ومصائر الشخصيات مجبرة بالدوران حول المكان لأنه المحور الأصل والكيان الجامع لكل ما يدر داخل السّرد. 

الرَّقيب وغياب المكان 

القاص أحمد محمد الموسوي، تحدث عن غياب المكان في السّرد العراقي، ويرى أن لهذا الغياب أسبابه الطبيعية، ويقول "فحين تخضع الكتابة لمسدس الرقيب يحاول الكاتب أن يشوش على المكان والزمان فهما دالتان صريحتان لمقاصد الكتابة وغاياتها، ودليلان على تجاوز حدود المقبول في الأنظمة البوليسية القمعية وفي المجتمعات المنغلقة التي يقودها العقل الجمعي"، على حد وصفه .

وأضاف الموسوي: الكتابة هنا مع التصريح عن المكان تفضح خطة الكاتب وتؤلب عليه السلطة – سواء كانت حكوميَّة أو شعبيَّة أو مافيويّة - وحدها الكتابة المتصالحة مع السلطة هي التي تكشف عن المكان وتحدده ولا تضطر إلى اخفائه أو تمويهه.. ومن باب المقارنة نستطيع أن نتبين الفرق الكبير بين ما قدمه السّرد في مصر من ناحية ابراز المكان بكل تفاصيله وبمسمياته حتى صرنا نحفظ جغرافية المدن والشوارع والحواري المصرية من خلال السرد وكأننا عشنا وترعرعنا فيها، إضافة إلى أنه أسهم كثيراً في أرشفة ذاكرة تلك الأمكنة والحفاظ عليها، على عكس السّرديات في الرواية والقصّة العراقية التي في أغلبها تحاول الهروب من توصيف المكان واظهاره بقوة، تلافياً للوقوع في شباك المحظور السياسي أو الاجتماعي.

وعلى الرغم من التنوع الجغرافي الهائل في البيئة العراقيّة، الذي أنتج تنوعاً اجتماعياً لا يقل عنه أهمية، إذ لا تجد بيئتين اجتماعيتين متطابقتين تماماً في اللهجة والعادات مهما اقتربتا جغرافياً، إلا أن السّرد العراقي بمجمله لم ينتبه لهذه الخاصية المتعلقة بالمكان، أو أنه تجاهل اظهارها تبعاً لتحاشيه اظهار المكان، فترى السّرد يحوم في دائرة مكانية واحدة تقريباً ويهرب في أكثر الأحيان إلى اللامكان. 

أنا عن نفسي شخصياً، أفضل عدم التصريح بالمكان في قصصي، وخصوصاً التي أتناول فيها الحالات السلبية، وذلك أننا في العراق لا نستطيع التكهن بردود الفعل الاجتماعية إذا ما تناولت القصّة حالات سلبية أو شخصيات غير سوية، ونسبتها إلى مكان بعينه، إذ لا عاصم للكاتب من ردود الفعل هذه، خصوصاً وأن الذهنيَّة العراقيَّة اعتادت التعميم ولا تعترف بالخصوصيات الفردية في داخل المجتمع، فإذا رسم كاتب ما - سردياً - شخصيّة إجرامية ونسبها لمكان معلوم فإننا لن نأمن ردة الفعل التي تتهم هذا الكاتب بأنّه قد أساء للبيئة الاجتماعية كلها في ذلك المكان.