لماذا نكتب؟ : رؤى عراقيَّة خالصة

ثقافة 2024/07/31
...

صفاء ذياب


في كتابه (لماذا أكتب)، يلخّص الروائي جورج أورويل دوافع الكتابة في أربع نقاط، أوّلها حبُّ الذات ورغبة الكاتب في أن يبدو ذكياً أمام الآخرين وفي كسب اهتمامهم وجعلهم يتحدّثون عنه وتحقيق نوع من الخلود بعد الموت، فضلاً عن الرغبة في الانتقام من كبار كانوا يسيئون معاملة الكاتب في صغره.

وثاني الدوافع في نظر أورويل هو ما أسماه بالحماس الجمالي، مبيناً أنَّ “إدراك الجمال في العالم الخارجي، أو من ناحية أخرى في الكلمات وترتيبها الصحيح” وعن “الرغبة في مشاركة تجربة يشعر المرء أنَّها قيّمة” وأضاف شارحاً أنَّه “لا يوجد كتاب يخلو من الاعتبارات الجمالية”.



في حين كان دافعه الثالث للكتابة يتعلّق بما أسماه “الحافز التاريخي” متحدّثاً عن رغبة في رؤية الأشياء كما هي بهدف “اكتشاف حقائق صحيحة وحفظها من أجل استخدام الأجيال القادمة”.

أمَّا الدافع الرابع فهو الهدف السياسي. قائلاً إنَّه يستخدم هنا “كلمة سياسي بأشمل معنى ممكن، الرغبة في دفع العالم في اتجاه معيّن لتغيير أفكار الآخرين حول نوع المجتمع الذي ينبغي عليهم السعي إليه”، وهو يؤكّد أنَّه لا يوجد كتاب يخلو من التحيّز السياسي ويقول “الرأي القائل إنَّ الفن ينبغي ألَّا يربطه شيء بالسياسة هو بحدِّ ذاته موقف سياسي” ويضيف متحدّثاً عن تجربته الشخصية “حينما افتقرت للقصد السياسي كتبت كتباً بلا روح وخدعت بجمل قرمزية وجمل بلا معنى وصفات تزيينية وهراء بشكل عام”.

ربّما تكون رؤية أورويل خاصة بعالمه، ولمسببات ثقافته الخاصة، لكنه يتحدّث بشكل عام عن تجارب سابقة ومواكبة له، في حين كانت لعوالم كتابنا أسباب، يمكن أن نبتدئ بسبين أو طريقتين للكتابة:

• تكتبُ لأنك تحبّ السرد وقصّ الحكايات، فأنت تستثمر براعتك في الكلام.

• تكتب لأنك لا تحب الحديث، لا تعرف حقاً كيف تتحدث وجهاً لوجه. أنت تهرب من الكلام إلى التعبير.

فيا ترى ما الأسباب التي تدفعنا للكتابة إن كانت من هاتين الطريقتين، أم أنَّ هنا طريقة خاصة لكل كاتب عراقي:

الاستعداد للتأمل

لا يتفق الروائي والمترجم محسن الرملي بأنَّ طُرق الكتابة ودوافعها، تتحدّد بهاتين الطريقتين، وإنَّما هي متعدّدة جدَّاً، بعدد الكُتّاب أنفسهم، وأحياناً تتعدّد عند الكاتب نفسه، وفق ظروفه وموضوعاته. لا يكفي أن يحب أو يجيد الشخص روي الحكايات ويحب الكلام ليكون كاتباً، وإلَّا لأصبح عدد الكُتّاب بالملايين في كلِّ بلد، كما لا تكفي رغبة الهروب من الكلام المباشر، ليكون المرء كاتباً. الكتابة أوسع وأشمل وأعمق من هذا وذاك، وهي بعد هذا العمر الطويل لها، الذي يساوي عمر البشرية منذ اختراع الكتابة، قد صارت عِلماً، بل وحاضنة لعلوم كثيرة، فمثلاً الكتابة الأدبية السرديّة، تنطوي على أشكال من علم النفس وعلم الاجتماع وعلم اللغة والجغرافيا والتاريخ والسياسة.. وغيرها.

“أمَّا بالنسبة لي، فما يدعوني للكتابة أسباب كثيرة، بعضها أعرفها وبعضها لا أعرفها، ولديَّ شعور أنَّ التي لا أعرفها أقوى وأهم من التي أعرفها.. ولكن على أيّة حال، من التي أعرفها، هي أنَّ لديّ ما أريد قوله، رؤية معيَّنة تجاه كلّ موضوع أتناوله، رؤية للذات والعالم، ومواقف من قضايا إنسانية كثيرة، ومنها ما هو جوهري يتعلّق بوجودنا ككائنات حيّة، وبالطبع أوّلها أسئلة عن الموت، عن معنى الوجود، عن الجمال، عن الألم، عن الحب، عن الخيال، عن الذاكرة، عن الظلم والعدل وعن الحرّية. لستُ راضٍ عن حال العالم الذي أراه، وأعتقد بأنَّنا قادرون أن نجعله عالماً أفضل، عبر تعبير أفضل وأجمل، والكتابة، إلى جانب الفنون الأخرى، هي سبيل فعال لأنسنة الإنسان أكثر، وأعتقد أنَّ الإنسان اليوم، ما زال ينطوي على جوانب متوحّشة كثيرة، تحتاج إلى أنسنتها، لذا فنحن بحاجة إلى مزيد من الثقافة والفنون، وهكذا أعتقد بأنَّني من خلال القراءة والكتابة أجعل حِسّي أنا أولاً، ومن بعدي من يقرأ لي، أكثر رهافة، أكثر تعاطفاً، أكثر شعوراً بالآخرين وتفهّماً لهم، وأكثر استعداداً للتأمّل والتفكير في أسئلتنا الخالدة... وختاماً، أؤكّد لك، بأنَّ ما قلته كلّه، ليس مجرّد كلام أدبي أو ثقافي مكرّر، وإنَّما هو حقيقي وصادق وجاد بالنسبة لي”.

إيقاعات الدوافع

ويقول الشاعر عدنان الصائغ إنَّ أشياء كثيرة دفعته وتدفعه للكتابة، ربَّما يكون الدافعان اللذان تمَّ ذكرهما في السؤال أو أحدهما، سبباً وجيهاً في زمن الصبا والشباب وما تلاهما من أزمنةٍ موغلة بالقمع والتسكيت والمصادرة، بيتاً أو مجتمعاً أو نظاماً. فلا بدَّ أن يلوذ ذلك الفتى- الذي كنتُهُ- بدفتره الصغير، على ضفاف شط الكوفة القريب من بيته هناك، يبثّه ما تكتنزهُ روحه وأيامه من لواعجٍ فقدٍ وحرمانٍ وأحلام تُوأدُ حتَّى قبل أن تكتملَ..

“فقد كانت أحلامي أكبر منّي وتتحدّث أكثر منّي، فلا بدَّ أن أدوّنها لنفسي على الورق قبل أن تغيب في زحمة الحياة أو النسيان”.

ويضيف: لكن الكتابة صارت فيما بعد ملاذاً وقناعاً ومتراساً وصليباً، بتعدّد المجابهات والمصادرات التي واجهتني، على مدى أكثر من ثلث قرنٍ من الكتابة والنشر، منذ مسرحية “محاكمة الشاعر دعبل الخزاعي” نهايات السبعينيات، حتَّى “الذي ظلَّ في هذيانه يقظاً” مطالع التسعينيات، و”DESERT POET” قبل عام، أو قلْ منذ “انتظريني تحت نصب الحرية” العام 1984، وحتَّى “نرد النص” 2022، و “ومضاتُـ...كِ” 2024.

فقد أخذت التحديات وتواتر الأحداث، من حروبٍ وقمعٍ ورقاباتٍ وحصاراتٍ وإلخ، تدفعني أكثر للكتابة، كأنَّها للتعويض عن حيوات مضاعة لي ولآخرين.

ثمَّ انتقلتُ ونصّي إلى المنفى فتصاعد الحنين متساوقاً مع تلك الفقدانات والذكريات المرّة، فأخذت الدوافعُ شكلاً وايقاعاً آخر وقد تنشّقت نسيم الحرّية للمرَّة الأولى بملء رئاتها المخنوقة.

شاهد على العصر

في حين لا يكتب الروائي شاكر الأنباري لأنَّه يجيد الكلام، ولا لأنَّه يهاب التعبير كلامياً للمحيطين به، بل يكتب لأسباب أخرى تنتمي إليه كفرد له رؤيته الخاصة عن الحياة التي عاشها منذ الولادة. وهذه الحياة ارتبطت بمكان، وربَّما أمكنة بعينها، وبأزمان متحوّلة، ومتسارعة، يصعب الوقوف بوجهها أو إيقافها. و”باعتباري عشت استدارة قرن، وألفية جديدة، في مدّة زمنية شهدت أحداثاً هائلة، وتحوّلات جذرية سواء في العراق والمنطقة، أو العالم بشكل عام، كان الغرض من مواصلتي مشروعي السردي، والكتابي، هو أن أكون شاهداً على العصر، شاهداً عاش تلك الحقبة، وفكّر بها، وكوّن رؤيته الخاصة الناتجة عن قراءات متنوّعة، وتجارب حياتية صاحبها كثير من الاهتزازات المكانية والنفسية، فلم يعد أمامي لتجسيد ذلك كلّه سوى الكتابة.

يمكن القول إنَّها حاجة روحية لخلق التوازن الداخلي مع الخارج. ذلك الخارج المعادي، وغير المفهوم، الذي يصعب تغييره لأيِّ فرد كان.

وحده الكاتب يستطيع عبر رسم عالم موازٍ، أي عالم السرد، أن يخلق مادة ينتقيها بنفسه، ويفسّرها بنفسه، ويتلمّس جمالياتها وقبحها بعينين ثاقبتين. أي أنَّني أخلق شخصياتي، وأفكاري، وهواجسي، وحتَّى أسئلتي، عبر عقل متدرّب على الأسئلة، ورؤية بدأت متعثرة منذ الطفولة، لكنَّها استطاعت ضبط إيقاعها سنة بعد سنة، عبر التجربة والقراءة.

والكتابة في النهاية، متعة يومية، بل لحظية بعض الأحيان، للهروب من الفراغ الوجودي، وعبثية عيش هذه الفترة الزمنية القصيرة، ثمَّ الوصول إلى الغاية المكتوبة على جبين كلِّ كائن حي، أي الموت. فالكتابة هي التي تخلق معنى لتكرار الليل والنهار، وهي التي تضع عنواناً لرحلة الكرة الأرضية في فضاء لا متناهٍ، أجرد، يعجز عن سبره العقل البشري. يستطيع الكاتب السؤال عن ذلك كلّه، وفي الوقت ذاته يستطيع أيضاً وضع الأجوبة التي تلائم رؤيته، وقناعاته، ومشاعره. وفي هذا متعة لا يمكن لأيٍّ كان، عدا المبدع، الإحساس بها والوصول إليها.

القراءة طريقاً للكتابة

ويعترف الروائي والمترجم عبد الهادي سعدون أنَّ دوافعه للكتاب في هذه التفاصيل كلّها ربَّما، وحتماً أشياء أخرى غير معرفة، لكنّه يعترف أنَّ الذي جذبه للكتابة هي القراءة نفسها.

مضيفاً: كنت منذ أولى قراءاتي وأنا صغير، دائماً ما كان يجذبني ذلك العالم الخفي بالنسبة لي في وقتها، وهو كيف يمكن أن تكتب حكاية بهذا الشكل وبهذه التعبيرات، ومن أينِ تجيء كلّها؟ هذه المحاكاة الطفولية كلّها وبعدها بسنين كانت نوعاً من تقصّي الذات والتساؤل أيضاً حول فيما لو أستطيع أن أقوم بالدور نفسه، أي أن تكون لي قدرة ذلك الكاتب بتدوير وتحوير الكلمات لمنحها شكلاً مناسباً يطلع عليه الآخرون وينتبهون له. طبعاً هذا كلّه لم يحصل دفعة واحدة، بل بصورة تدريجية، من مراقبة وتعلّم وممارسة حتَّى تستطيع أن تفرك مصباحك الداخلي ليضيء لك بفكرة وتتجرّأ على كتابتها.

بعد ذلك ستتجمّع الأسباب كلّها: حب السرد والابتكار والتدليل على براعتك بتناول شيء ما، شخصية ما أو حدث مهم. حتماً أن تعبّر عمَّا عندك لتكون مسموعاً أو لتبدي رأيك بشيء ما، وقد يكون هو في الهروب من العالم الذي يحيطنا لتقوم بتفصيل بدلة مناسبة له أو بديلة عنه. لننتبه أن ذلك كلّه مردّه التمعّن والاطلاع والقراءة بخفوت أو بصوتٍ عالي، فلولا تلك الدفعة القويّة من عوالم القراءة الأبدية لما فكّرت أن أجاري الآخر ولعه الأكبر بصنع وتركيب وخلق ما ترغب به. لو هناك سلم بدرجات لوضعت عالم القراءة والقلق البشري كدافع وحيد أوحد للمرور بعوالم الكتابة.

السعي لفهم العالم

ويختتم الروائي ضياء الخالدي موضوعنا مبيناً أنَّ منطلق الكتابة لديه يرتبط دائماً بالسعي لفهم العالم، والإحاطة بدوافع الإنسان الذي ينتج الحكايات التي يكتبها. الشغف بقصِّ الحكايات وحده لا يكفي، ولا الهروب إلى التعبير من أجل معالجة نقص ما. هناك رؤيا تتسلح باستمرار عبر القراءة والتجربة والتأمل، ومنها تتجدّد الحساسّية بالأشياء، وترى العالم بشكل مختلف.

موضحاً أنَّ جنس الرواية يتيح مساحة واسعة لتمثيل واختبار هذا الفهم، فالإنسان، بطل الحكاية، هو الغاية للوصول إلى معنى جديد، وليس وسيلة تنتجها البراعة في التعبير وإبهار القارئ. أي، يكون البدء من نقطة شروع مُلحّة، وذات طبيعة تبغي البناء على ما تقدّم، وتُمهّد لنقطة شروع مقبلة لها ملامح مختلفة. يعني ذلك التجدّد، وعدم البقاء في المنطقة ذاتها. ويُفسّر أيضاً عدم كتابتي للروايات بكثرة، والفترة ما بين رواية ورواية لديّ تمثل مرحلة تحوّل، تنهار فيها تصوّرات ومقاربات وتولّد أخرى تبغي الاختبار والتجسّد. ومن هنا تستلهم الحكاية التي أريد روايتها أكبر قدر من وعي مرحلتها، ووفقاً لعناصر ومقوّمات الجنس الروائي.

وبرأي الخالدي، إنَّ دوافع الكتابة الجيدة تبدأ من هاجس فحص المسلّمات كلّها وإدراك بنيتها الحقيقية، أو في الأقل الاقتراب من فهمها بصورة مغايرة، لأنَّ الانطلاق منها من دون الفحص في تدوين الحكايات يضعنا أمام خلل واضح في إدراك طبيعة الواقع، والاتجاهات التي يمضي إليها. وأيضاً لكي يكون الكاتب دائماً في موقع استشراف، وقادراً على إنارة ما يقع وراء الظاهر.