غيداء البياتي
ثمة حكاية لم تغادر ذاكرتي منذ زمن، لا أدري إن كنت سمعتها أو قرأتها في كتاب، وربما نشرها أحد أصدقائي على صفحته في الفيس بوك أو تويتر، وعلى ما يبدو أن ما تضمنته من حقيقة نعيشها في حياتنا هي التي جعلتها ترسخ في الذاكرة ولا تبرحها، وملخص تلك الحكاية هي أن إحدى الطالبات سألت عالمة الأنثروبولوجيا «مارغريت ميد» التي كانت تعطي موضوعات عن الأخلاق في ستينيات القرن الماضي عما تعده أول علامة للحضارة في تأريخ الإنسان، فأجابت «أن أول علامة للحضارة في الثقافة القديمة هي الدليل الذي وجدناه والذي كان عبارة عن عظم لشخص أصيب بكسر في عظم الفخذ وشفي منه واستمر في الحياة، بالرغم من أنه كان محاطاً بالخطر ولا يتمكن من الهرب أو التحرك للبحث عن طعام، ففي الغاب لا ينجو أي حيوان كسرت ساقه لعدم توفر الوقت لغاية شفاء العظم، وعظم الفخذ المكسور الذي وجدناه والذي تمت معالجته، كان دليلاً على أن شخصاً ما آخر استغرق وقتاً للبقاء مع المصاب وحمايته والاعتناء به لغاية شفائه، لذلك فإن مساعدة شخص ما على تجاوز مصاعب الحياة هي نقطة البداية للحضارة، وإن الحضارة هي مساعدة مجتمعية».
هذه القصة أو الحكاية جعلتني أستذكر موقفاً كان قد مر بي في بيروت بصراحة أشعرني بالفخر كوني عراقية وأنتمي لتلك الحضارة المتوارثة، بل عشقت كل عراقي أصيل ورث روح المساعدة والغيرة والشهامة التي لم أجدها في كل العالم، أين ما سافرت وتوجهت، فحينها جلست على كرسي بباص كان قد انطلق من منطقة الحمراء إلى آخر شارع الروشة، وبعد ثوانٍ صعد شاب بعمر الـ{19» عاماً طلب مني النهوض من الكرسي ليجلس محلي بحجة أن لديه بطاقة للجلوس على هذا المقعد وجعلني واقفة طوال الطريق! بينما هو ينظر إليّ وأنا أترنح يميناً ويساراً متمسكة بإطار حديدي خوفاً من السقوط.
لذلك فإني لا آتي بجديد إذا قلت عن قناعة وعلى وفق المشاهد التي أراها يومياً لأشخاص يساعدون فتاة على تصليح سيارتها المعطلة وسط الشارع، أو أن أحداً يساعد آخر غريباً على تجاوز محنته، إن روح المساعدة والغيرة والشهامة لدى العراقيين لا توجد في أي مجتمع آخر، وإن شبابنا ما زالوا يباهون بأنهم الأجواد في تعاملهم مع بعضهم ومع ضيوفهم وأنهم لم يتغيروا حتى في العصر الحديث، كما أنهم أولاد الحضارة الحقيقيون، فتلك طبيعتهم منذ أن كانوا في أرحام أمهاتهم.