عادل الصويري
في تعريف التأويل، يقول الجرجاني "الترجيع وفق الشرع، أي: صرف اللفظ عن معناه الظاهري، إلى معنى يمثله" وهذا التعريف يمكن أن تُشتق منه تعريفات أخرى، قد تخلص إلى أنَّ التأويل فعل ذهني يحاول استكشاف ما في النص من المعاني الخفيّة المُرَمَّزة، أو المسكوت عنها بقصديَّة الكاتب، وإعادة تخيّلها.
ومن أكثر إشكاليات التأويل؛ تدخل أهواء وأمزجة المُؤوِّلين، على اختلاف مستوياتهم، وتنوعهم الفكري والإيديولوجي، في تأويل النصوص، منقادين لبعض المشاعر الداخليَّة، والتي تكون أحياناً مشتتة وملتبسة لا ضابطَ يضبط إيقاعها لحظة التلقي والقراءة الفعليَّة. وربما هذه الإشكالية هي التي جعلت الناقد حاتم الصكر يعتقدها سبباً لرفض التحديثات المنهجية للممارسة التأويلية – تم قبولها في المغرب العربي - واحتدام الجدل بشأنها بين القبول والرفض، وطريقة التأويل بين السلب والإيجاب. ومع ذلك يؤكد على أنَّ التأويل ليس ممارسة نقديَّة فحسب، بل ممارسة ثقافيَّة
فعليَّة.
وهذه الإشكالية التأويليَّة قائمة حتى اليوم، رغم أنَّ "إيمبيرتو إيكو" بذل جهوداً كبيرة في إيجاد صيغة تأويليَّة، تعمل على تحفيز الإيجابية بين متلقي النص (المُؤوِّل) وكاتبه، في محاولة لحسم الجزم التأويلي، سواء كان إيجابياً أو سلبياً؛ لأنه يرى أن النصوص بإمكانها إنتاج قراءات أخرى قابلة للتعايش فيما بينها، وقابلة للتغيير؛ كونها -القراءات- ليست خلاصات نهائية، مؤكداً أن للنص السلطة المطلقة على قصدياته بصرف النظر عن قصديَّة المؤلف التي سبقت إنتاج النص، أو حتى لحظة تأويل القارئ الناقد، وفرضها على المتلقي طبقاً لأهوائه وأمزجته.
وحتى إن تعددت قراءات النص، واتفقت على دلالاته ومقاصده سلباً أو إيجاباً؛ فإنَّ هذا التعددَ يبقى نسبيّاً خاضعاً لمعطيات وظروف خاصة بلحظة تاريخيَّة معينة لها ملابساتها.
وهنا تلعب اللغة دورها الفعّال والمؤثر في عملية تشكيل المعنى الذي يتيح مساحات تأويليّة شاسعة ناتجة أصلاً من المساحة الشاسعة التي تتيحها اللغة، وهذا يتطلب معرفة المؤوّل بالاستخدامات اللغويَّة؛ ليستطيع وفق هذه المعرفة من فك الشفرات النصيَّة، وإظهار المتخفي من
قصدياتها.
صحيحٌ أنَّ الكاتب يعتمد على اللغة للتعبير عن دواخله ونزعاته النفسيَّة، إلّا أن اللغة تفرضُ على النص وجوداً خاصّاً بعيداً عَمّا يريده المؤلف، وهذا المعنى أشار إليه نصر حامد أبو زيد في كتابه "إشكاليات القراءة وآليّات التأويل" حين اعتمد على "شلاير ماخر" في أنَّ تحقق الفهم يأتي من ذلك الوجود اللغوي المستقل، والذي اعتبره منطقاً أوليّاً للفهم، "وبعده يبحث الباحث عن التعديلات التي مارسها المؤلف على اللغة" ليصلَ إلى نتيجة أنَّ اتحاد الوجود اللغوي بالوجود النفسي يؤدي إلى تأويل
متَّزن".
لكن، هل يعني هذا التسليم المطلق للوجود اللغوي تأويليّاً، وضرب دوافع الكاتب الذاتية والنفسية عرض الجدار؟
لو فعلنا ذلك؛ فإنَّنا نمارس أعتى عملية تعسّف على إنسانيّة النص الذي سيبدو من غير دوافع الكاتب وإنسانيته خاوياً وبلا روح؛ كون الكاتب سكب شخصيته على مستوى الرؤية والفكر والنظرة الاجتماعية، وليس للمؤوِّل اكتشاف هذه الشخصية وأبعادها، ومن ثم اكتشاف مكنونات النص من دون أن يضع في حساباته دوافع الكاتب، مع الحذر من الوقوع في فخ الأبعاد الإيديولوجية للكاتب، فالمؤوِّل عليه مسؤولية تفكيك الرموز النصّيَّة بالموازنة بين دوافع منتج النصّ، واللغة التي أتت بها تلك الدوافع، وذلك يأتي بعد عملية انسجام رؤيوي بين الطرفين، وبذلك ينطق النص، ويكشف عن اشتغالات صاحبه للمؤوّل الجاد الباحث عن الإشارة الضوئيّة التي تمكّنه من العبور إلى ذات الكاتب ولغته في اللحظة نفسها؛ لأنّه
تمكن من الإمساك بدليل التفوق على المكشوف من المعاني نافذاً إلى ما ورائيات المعنى، مراعياً في ذات الوقت اللحظة الزمنيّة بين إنتاج النصّ وقراءته.