المحتجب

ثقافة 2019/06/17
...

شكر حاجم الصالحي
في مجموعته الشعرية هذه والتي اسماها (( المحتجب )) يحاول منتجها عبد الزهرة الديراوي التأكيد على تمكنه من أدواته وقدرته على كتابة نص شعري مغاير لما هو سائد وهو الذي أصدر اكثر من مجموعة بدأها بــ ( صبي الجنوب ) مروراً بـ ( عشب في عيون الأميرة ) و ( دخان ) و ( الصغير المجاز ) و ( ماذا جرى ) قصيدته الطويلة التي شغلت اهتمام القراءة وقت صدورها ، وجددت ثقة القارئ النابه بما يبدعه الديراوي الذي قرأت له أواخر سبعينات القرن المنصرم في الصحف والدوريات العراقية العديد من القصائد والنصوص التي انتزعت الثناء وحققت انتشاراً واسعاً بين أوساط المهتمين والمتابعين لتجاربه الابداعية ،و ( المحتجب ) هذه تأتي بعد عزوف عن النشر من ( 2003 الى 2015 ) اشار إليه في صفحتها المرقمة ( 126 ) اذ كتب ما نصه ( كتبت هذه القصائد سنوات
 الاحتجاب ) .
في ( المحتجب ) قدّم الشاعر نصوصه العمودية والتفعيلة ونصوص النشر ليبرهن للقارئ على ما يمتلك من موهبة ودربة ووعي ، فكانت نصوصه العمودية بلغتها ( الحديثة ) وصورها الجميلة والشواهد الوفيرة على صحة زعمنا ويمكن تفحص قصيدته العمودية ( في مناجاة الحسين بن علي (ع) إنموذجاً لذلك .. ، والديراوي لا يغادر انتماءه ( البصري ) الذي جسده في هذه المجموعة التي تفيض بالطيبة البصراوية والتي تتغنى بشط العرب وبساتينه ولياليه العابقة بالجمال والاندماج الروحي بشواهد مدينته الحضارية وناسها الطيبين ، وهذا ما سكتشفه نصوصه التي اخترنا انتقاءها في هذه القراءة الانطباعية 
يقول عبد الزهرة الديراوي في ( البصرة ثدي الفطام ) :
 
قدمت الى البصرة الان ..هذا المساء الربيعي / كان امتدادي يرافقني /
كانكسار النجوم على موجتين / الشوارع بردانة /والطريق الى الشط أبرد/
شيخ قديم يصافحني : هل حننته الى الشعر / لا .. ضاع ايقاعه / والطريق
غريب الى بيت أهلي / خطاي القديمة في طريقي لم تعدْ من 
خطاي / ص25
في هذا النص كما في بقية نصوص الديراوي ( البصراوية ) تتحسس الانتماء والتشبث بالبصرة أرضاً وتاريخاً وناساً ، وتتلمس الوفاء الانساني فيغمرك صدق المحبة ومحنة الشاعر في مغادرة الشعر الذي ضاع إيقاعه كما ضاع بيت الأهل بعد الذي جرى من طوفان دموي وخراب باذخ وهكذا أعتقد وأرى ان من أهم يتوجب على المثقف والشاعر على وجه الخصوص ان يقف في وجه عواصف الشر باعتباره المتقدم وعياً على اقرانه ،ومن هنا لم نجد على امتداد تاريخنا من وقف من المبدعين في صف الغزاة والمعتدين والمحتلين من كل الألوان والمسميات ، 
وهذا هو الموقف السليم المنسجم مع انسانية المبدع وايمانه بضرورة الكشف عن مساوئ الاخر الذي يريد بالبصرة / العراق / الشر / وزرع الفتن واشعال الحرائق الدامية .. وفي ( ما تبقى من الاغاني ) المقطعية يأخذنا الديراوي الى همومه الذاتية التي هينتاج مرحلة ملتبسة من
 زمننا هذا :
 
وسادتي / ريش حمامة ذبيحة / تنوح طول الليل ، / في رأسي / ص 55 
أو:    أيامي عصفور / بين مخالب قط مسعور / لا تدرك ساعتها / 
والساعة واقعة ــ لاريب / على الزمن المحظور / ص 58
أو :     من أول أيامي / ولا زلت أنا .. اسأل نفسي ، / عن كنهي وكياني/
 ولماذا جئت ؟/ والقبر من البدء مكاني ... / ص60
 
ولا أريد هنا أن أشير الى ملامح ( التناص ) الواضحة مع القصيدة الذائعة الانتشار ( لست أدري ) ومقدار الاستفادة من فحواها المتداول .. فكل نصوص ( ما تبقى من الاغاني ) تنويعات على التجربة الحياتية الغنية للديراوي الشاعر والانسان ، وهو ليس بمنعزل عن بقية حشد العراقيين الذي يتعاملون مع الخوف والمفخخات والدماء على مدار الوقت ، لكنه تعامل مع الاشياء المحيطة بوعي الشاعر الوطني والانسان البصري المقاوم .. وتلك فضيلة الموقف وفي نصه العمودي ( ما قاله ابن الملوح مني ) يوظف الديراوي قصيدة ابن الملوح التي يقول فيها : 
 
أليس وعدتني يا قلب اني
اذا ما تبت عن ليلى تتوب
فها أنا  تائب عن حب ليلى
فما لك كلما ذكرت تذوب ؟
في حين يقول الديراوي :
بأيِّ هوىً أحببت ليلى وحبتني 
وانّي واياها محبان بالظن
أراني ألمُّ الليل يوم طلوعها 
ومثلي يراها كلما بعدْت عني
وقالوا رأينا الموج يمشي تحتها
فقلت بهذا المشي يا قلب أغويتني .. ص74
 
وبعد هذا النموذج لا أرى ضرورة للمقارنة التفصيلية بين ابن الملّوح ونص الديراوي رغم اختلاف طريقه التداول وجماليات اللغة المعاصرة فشكراً للأثنين معاً الذين امتعانا بهذه الفسحة من السمو الروحي والألق الانساني المعبّر عن الصدق والصبر على احتمال الفراق .