من رصد انفسنا الى رصد الاخرين لما حدث وما أحدثته شخصيات عرفناها، دائماً ما نجد مثالاً يؤكد لنا هذه الازدواجية الصعبة، بل الشرسة ، بين الامنية الفاضلة وبين حقيقتنا الشخصية او حقيقة سوانا.اعني الحقيقة المستترة وراء ما نرى ونعرف..
فنحن، افراداً، نتبنى مُثلاً ومبادئ ونعلن عن امنيات.. لكننا في ساعات نَحْسٍ، نكسر هذه الأمنية علناً أو سراً، لنعلن عن سواها خفي كامن!
فنحن نعايش امنية الوصول للمثال الانساني و الوطني، ليتوقف كل الكلام ، ولتفاجأنا حقيقة اخرى كامنة . هذه الكامنة لايكف حضورها او يهدأ. هي ماضية في النزول بنا الى الارضي، او الشخصي اليومي، الذي يطعم مِعَدنا او يرضي غرائزنا او عطشنا للمزيد وهو عطش لا يروى ما دمنا احياء، وما دامت فرص عيش وكسب واحتيال على اسبقية المرور او الوصول. ولهذا امثلة كثيرة، من الاضداد ففي التجمعات البشرية . مثلاً الناس يحتشدون بوجه الكارثة، ناراً او طوفان، ولكنهم يوقع واحدهم بالاخر وقد يستولي على مايملك او يسترقه او يسوقه للموت إذا “ وليه او تمكن
منه !
وكذا لنا امثلة من ملوك التاريخ والذين كانوا بدءا زعماء قرى، فصاروا ملوكاً حين صارت القرى مدناً و اتسعت مدنهم فاحتوت ما
جاورها:
حسناً المدينة تنمو وتتطور ولكن الاستغلال بدأ والاسترقاق بدأ والقناته وسلطات الموت. مع الرغبة في التطور ونفع الناس كانت حقيقة الذات الاخرى الكامنة، في الهيمنة والبطش وسفك الدم.. وهي ما تعرفه الشعوب القديمة من حكامها “ العاديين” او المصلحين ممن عرفنا من بعد.وحتى المؤمنين بالله واليوم الاخر. فقديماً حمورابي الذي يفخَر بعدله من يجهلون حقائق التاريخ ، حمورابي هذا كان اردأ الناس وأشرسهم واقذرهم سلوكاً واكثرهم جشعاً وقسوة وفتكاً باموال الناس وبارواحهم. ولكي تعرفون حقيقة حمورابي، اقرأوا “ حمو رابي وعصره” والذي نقله عن الالمانية الى العربية الاستاذ د. غازي شريف، على ما اظن، سترون اي بشري رديء هو. لكن وسط هذه المخزيات تقف المسلة وقانون حمورابي.. فهذه” هي الظاهرة وتلك هي الحقيقة الكامنة او التي تخفى... هو بين اثنتين رغبة في العدل وسيادة القانون وحقيقة حمورابي !
وحتى بين الناس في شأنهم الاجتماعي وهم يتمنون العدالة والمساواة وضمان حقوقهم وحقوق الاخرين. كم من هولاء ما ان تولى موقعاً، منصباً ادارياً او رئاسة منظمة، او سواها ، حتى اتضحت نزعة الاستحواذ فلا احد سواه جدير بفرصة واتت وليس سواه جديراً بتمثيل او بحضور او نيل ، الاخرون ظلوا لخطاباته وادعاءاته وتمرير نواياه. وكم تسمع من هذا خطابات نارية في الاصلاح والحرية وضرورة ان ينال الناس حقوقهم... أنموذج أخر للامنية المعلنة شعاراً او رغبة وللحقيقة الاخرى التي سرعان ما تفرض نفسها وتطيح بالمبدأ او
بالادعاء.
نعود ثانية الى المدن، وهي تجمعات حضرية تمثل مطامحها محصلة الامنيات وتضمر الحقائق الاخرى التي نتحدث عنها اليوم: اثينا، في زمنها، كانت ام المدن حضارة وديموقراطية وشخصيات بارزة في الآداب والفنون والسياسة
والمعمار.
لكن هناك حقيقة اخرى: اثينا هذه لم تؤسس اتحاداً للولايات. ظلت ولايات او مدائن متناثرات فلا دولة تجمعها و إلا لتغير الكثير في تاريخ المرحلة وفي العالم من بعد. على العكس، النظرة الانفصالية كانت تسند هذه المدن، الذاتيات المركزة والمغلقة كانت الصفة الاولى. احتفظ كل بزعامته وما شاء احد يتخلى عنها، فظلت مدناً وظلوا زعماء نعم كانت اثينا الملكة بينها وكان الشعر وكان الفن والابداع الانساني وكانت عظمة اثينا وعظمة الاغريق لكن لا دولة ولا اتحاد ولا يات بقيت الزعامات، بقي رؤساء المدن رؤساء !
ومثلما التجمعات الحضرية، من القرية الى المدينة، اعادت تكوين الانسان مرحلة بعد اخرى ، هي ايضاً افرزت القوى المتسلطة. وهذا يعني القوة التي تصادر روح افراد هذه التجمعات الحضرية، فنجد زعيم قبيلة او قرية، ولاية او بلدة ،مقاطعة او بلاداً، صار زعيمها دكتاتوراً على البلاد كلها. في هذه المراحل كانت رغبات في التطور وتنظيم الحياة وصقل انظمة التعايش. لكن الحقيقة اخرى التي نتحدث عنها، ظلت الحاكمة الاخذة بخناق الناس والمصادرة لارواحهم حتى ضاق بها الخلق وحتى صرخ سوفوكايس في “ مسرحية” انتيجوني” :
“ ان مدينة لا رأي فيها الا لرجل واحد ، ليست
مدينة” !
ولعل احد اسرار عظمة شكسبير وشعبيته العالمية انه كشف كلا الامنية والحقيقة الاخرى الكامنة، كشفهما معاً بشخصيات توضح هذا الازدواج الصعب والشرس في المدن والممالك وفي نفوس الافراد والجماعات وهنا احد اسرار الاثارة الشعبية في اعماله المسرحية وديمومتها.
روح الاستئثار والتسلط والاستحواذ، كانت تنشط مع نمو الرغبة في التنظيم وفرض الاستقرار ومطاردة السراق والمعتدين و كمال او نضج القيم وانظمة التعايش المجتمعي.
جاءت أزمنة كانت ما اسميناها “ الحقيقة الاخرى” هي الحاكمة التي تتدخل في العمل والتناسل واللهو و المصير الانساني... قد تضعف هذه في فترات او مراحل، لكنها عموماً حاضرة في التاريخ كله وفي مدى التحضر كله. ويبدو ان هكذا هو العالم وهي هذي الطبيعة البشرية
والناس.
فهل ادرك العارفون والمتسامون واصحاب الرؤيا، سلطان هذه الحقيقة الكامنة التي تحكم الناس و العصور فتركوا المدينة في واقعها ليرسموا في عقولهم مدناً طاهرة ، غير هذه المدنسة ويحتفظوا بأمل لانفسهم وللناس؟ اقول : نعم هذا سبب ، وسبب بالنسبة لنا أكيد!