الدّورة التّدريبيّة الأساسيّة في تحقيق النصوص التّراثية الخطّية

منصة 2024/08/11
...

  علي لفتة سعيد

مثلما لا أمة بلا تاريخ، فإنه لا أمة بلا ذاكرة تراثيّة تختزن المخطوطات القديمة جانبًا كبيرًا منها، والأمة التي تهتمّ بتراثها قبل أن يندثر أو يزيف، هي الأمة الناضجة الحضاريّة المتقدمة، التي تبحث عن جذورها البعيدة والقريبة، من أجل أن تبقى أمام أعين الأجيال. وأمام تسارع المعلومات والتطورات التقنيّة، وما طرأ على العالم حتى في موضوعة الذكاء الاصطناعيّ، تجد الأمم نفسها أمام صراع جديد للحفاظ على هويتها.

ومن أهمّ ما ينبغي أن تُركّز عليه أن تكون هناك كوادر تعمل على حفظ ما هو متّصل بهذا التّراث؛ فكلّما ابتعد الزّمن قلّ العاملون في هذا المجال، وكأنّه الجهة المقابلة المتعاكسة والمتنافرة مع التّطوّرات التّقنيّة. وهو ما أخذت به وزارة الثقافة المتمثّلة بدائرتي الشّؤون الثّقافيّة العامّة ودار المخطوطات العراقيّة، في تبنّي مبادرة تدريب كوادر شابّة تأخذ على عاتقها مسؤوليّة حفظ كلّ مخزونات التّراث، واتّساع رقعة الوعي الثّقافيّ بين صفوف الشّباب والأجيال الجديدة، من خلال دراسة النصوص التّراثيّة المخطوطة وتحقيقها ونشرها.
وقال الأديب والباحث المُحقّق حسين محمّد عجيل المحاضر والمدرّب والمشرف العامّ على (الدّورة التّدريبيّة الأساسيّة الأُولى في تحقيق النُّصوص التّراثيّة الخطيّة): "تبنّت دار الشّؤون الثّقافيّة العامّة ودار المخطوطات العراقيّة مشروعًا كنتُ تقدّمتُ به لإقامة سلسلة دورات تدريبيّة في مجال تحقيق النُّصوص التّراثيّة الخطّيّة، ابتدأت بدورة أساسيّة غير مسبوقة في تاريخ وزارة الثّقافة العراقيّة- بحسب المدير العامّ لدار الشّؤون الثّقافيّة العامّة- والأولى من نوعها التي تُقيمها مؤسّسات الدّولة في العراق منذ نحو رُبع قرن.
وأضاف عجيل: "تُعنى الدّورة بتدريب الشّباب، من الجنسين، المهتمّين بهذا المجال والرّاغبين في أن يكونوا باحثين ومُحقّقين، سواء أكانوا من المنتمين للجامعات والأكاديميّات أم من خارجها. وإنّ من أهداف هذه الدّورة الأساسيّة ومراميها؛ توفير القاعدة المعلوماتيّة الكاملة التي تُساعد أبناء هذا الجيل على الإلمامِ بالخطوط العامة لهذا التّخصّص الدّقيقِ، وتمكينهم من التّواصل مع تجارب الأجيال السّابقة الّتي قدّمت عطاءً لافتًا في مجال تحقيق النّصوص ودراسة التّراث العربيّ الإسلاميّ في حقوله المختلفة، والاطّلاع على تجاربِهم الغنيّة عن كثب، لأجل تطوير مهاراتهم ومدّهم بالخبرات التي تجعلهم مؤهلّين لاجتراحِ مشاريع شخصيّة تُناسب قدراتهم، ورعايتهم والأخذ بأيديهم لحين نشر مشاريعهم الأُولى في التّحقيقِ، وكذلك السّعي لخلق الفرصِ لهم؛ ببناء شراكة بينهم وبين كبارِ المحققين في مشاريع طموحةٍ، يمكنهم الإسهام فيها مساعِدين بقدرٍ يُناسب إمكانيّاتهم، حتّى يُحقّق المشروع أقصى غاياته"، مُشيرًا إلى أنّ هذه الدّورة افتتحت واختتمت بحفلين رعاهما السّيّد وزير الثّقافة والسّياحة والآثار الدّكتور أحمد فكّاك البدراني، وبإشراف وحضور الدّكتور عارف الساعدي مستشار رئيس الوزراء المدير العامّ لدار الشّؤون الثّقافيّة، والدّكتور أحمد العلياوي النّاطق باسم وزارة الثّقافة المُدير العامّ لدار المخطوطات العراقيّة، اللذين بذلا ما أمكنهما من جهود لإنجاح الدّورة وتوفير أهمّ مستلزماتها.
يُذكر أنّ المُشاركين بالدّورة الأولى، وعددهم 23 متدرّبًا ومتدرّبةً لا تزيد أعمارُهم عن 40 عامًا، تلقّوا خلال تسعة أيّام دروسًا ومحاضرات على يد ثلاثة مُدرّبين ومُحاضرين أكفاء، هم الأساتذة المحقّقون: الأُستاذ الدّكتور محيي هلال السّرحان والأستاذة المتمرّسة نبيلة عبد المنعم داود والباحث المحقّق الأستاذ حسين محمّد عجيل. كما قدّم فيها ثمانيةٌ من المحقّقين والمشتغلين في دراسة نصوص التّراث الخطّيّ وفهرسته وترميمه ثماني محاضرات عن خلاصات تجاربهم ورحلاتهم في عوالم التّراث العربيّ، وهم: الأُستاذ المُتمرّس الدّكتور صاحب جعفر أبو جناح أُستاذ اللّغة العربيّة بالجامعة المستنصريّة، والأُستاذة الدّكتورة آلاء نافع جاسم مُديرة مركز إحياء التُّراث العلميّ العربيّ بجامعة بغداد، والأُستاذة الدّكتورة نادية غازي العزّاوي أُستاذة الأدب العبّاسيّ بالجامعة المستنصريّة، والدّكتور حسن عبد راضي رئيس تحرير مجلّة (المورد) التُّراثيّة الفصليّة المُحَكّمة، والأُستاذ الدّكتور عبّاس هاني الجرّاخ رئيس تحرير مجلّة (المُحقّق) التُّراثيّة الفصليّة المُحكّمة، والدّكتور أحمد الحصناوي الباحث في مركز النّهرين للدّراسات الاستراتيجيّة، والأُستاذ حيدر كاظم الجبوري عُضو هيأة تحرير مجلّة (المورد)، والأُستاذة منى ناجي عبّاس رئيسة قسم الخزن في دار المخطوطات العراقيّة.
من بين المشكلات التي تواجه المجتمعات في ظلّ الظروف الاستثنائيّة: انقطاع التّواصل بين الأجيال، وهو أمر يُصيبُ بمقتلٍ العمليّةَ الحيويّةَ لنقل الخبرات المُتراكمة وخلاصات التّجارب، ويؤكّد المُدرب المُشرف على الدّورة حسين محمّد عجيل هذا التّشخيص، ويضيف أنّ "معظم أبناء هذا الجيل عاش ظروفًا عصيبةً مرّت بها البلاد في عقودها الأخيرة، ما أفقدَ كثيرًا من المُهتمّين منهم بالتُّراث المخطوط، والرّاغبين في التّخصّص بدراسته وتحقيقه ونشره، فُرصةَ التّحاور والتّثاقف واكتساب الخبرات ممّن سبقهم، ولذلك سعينا في هذه الدّورة إلى خلق المناخ الملائم، وتوفير المُمكنات اللّازمة لظهورِ جيلٍ جديدٍ من المحقّقين العراقيّين، يرفد المشتغلين في هذا الحقل العلميّ، الّذي كان لعلماء العراق وأعلامه، منذ مطلع القرن العشرين وعلى امتداد العقود الماضية، دور كبير في تطويره، ووضع ملامح تشكُّلِهِ عِلْمًا من العلومِ الإنسانيّة، بحيث تكّونتْ من خلال تراكمِ خبرات المحقّقين في البلاد، مدرسة عراقيّة ذات تقاليدَ عريقةٍ  في هذا المجال، ومشهود لها بالتَميّز والفرادة والدّقّة العلميّة".
ويضيف عجيل: "إنّ ديمومة هذه المدرسة، وتطويرها، ومدّها بعقول جديدة مُدرّبة ومؤهّلة، من بين واجبات المؤسّسات الثّقافيّة الرّسميّة، وهي من أهمّ أهداف هذا المشروع، هذا فضلًا عن هدف ضمنيّ آخرَ، يتمثّل في حِفْظِ كنوز تراثنا الحضاريّ وأرشيف بلادنا الثقافيّ من الفقدانِ الأبديّ، في وقتٍ لا تزال فيه الأخطار مُحدقة بما نجا بأُعجوبةٍ من هذا الميراث في كوارثَ ونوازِلَ قديمةٍ وجديدةٍ مضت، ومضى معها شطرٌ عزيزٌ من الذّاكرة العراقيّة لا يُمكن تعويضُه"، مردفًا "سيظلّ هذا الجيل الّذي عايشَ هذه الأحداث مكتويًا العُمْرَ كلَّه بما رأى من أهوال محو الذّاكرة المُتعمّد، وهو ما يدعو كلّ غيورٍ على ذاكرة بلادنِا الّتي تُمثِّلُ مُتحفًا لتاريخ بني الإنسان، إلى البحث عن وسائلَ وآلياتِ عملٍ حمائيّةٍ وتثقيفيّةٍ لتجنُّبِ مثلِ هذا المصير مرّةً أُخرى، تدخلُ فيها الدّولةُ بثقلِ مُؤسّساتها ذات الصّلة، وما هذه الدّورة الّتي هي مُفتتحُ دوراتٍ مُتسلسلةٍ، إلّا واحدةً من هذه الوسائل والآليّات".
ما يميز هذه الدورة أنّها متعدّدة المحاور ثريّة في منهاجها العامّ الّذي وضعه المُشرف على الدّورة، فهي تبتدئ بنظرة مجملة على تعريف علم تحقيق النُّصوص التُّراثيّة الخطّيّة وأركانه، وأوّليّة علم تحقيق النّصوص عند العلماء العرب المسلمين، ودور المستشرقين والمحقّقين العرب المُحْدَثين في وضع قواعده.
ومن محاورها: ما المخطوط؟ مظاهره الأُولى وموادّه عند تدوين القُرآن الكريم، ودور العرب في نقل صناعة الورق وتطويرها، والكتابة العربيّة: بداياتها وتطوّرها، أدواتها، أنواع الخطوط العربيّة، فضلا عن فقرات في صفات المُحقّق ومهاراته، وانتقاء الكتاب الخطّيّ بهدف تحقيقه والتّحقّق من عنوانه واسم مؤلّفه، والتّأكُد من عدم نشره. فضلًا عن جمْع نُسَخه وتصنيفها، وتحديد النّسخة الأُمّ أو الأصل، ونسخ النّصّ، وكيفيّة المقابلة مع النُّسَخِ الخطّيّة الأُخرى، والإحاطة بالمصادر لتوثيق النّصّ، ومُشكلات تحقيق النُّسخة الخطّيّة الوحيدة، وعقباتها. إضافة إلى مباحث مُقدّمة المُحقّق، وقواعد التّشكيل والتّنقيط والتّهميش، والتّخريج والتّعليق والتّوثيق، وكيف يُواجِه المُحقِّقُ بعض العقباتِ المتعلّقة بالنُسَخِ السّقيمة الخطّ، ويتطرّق المنهاج كذلك إلى التّعريف بأعلام المُحقّقين في العراق ومناهجهم، وجهودهم في النّقد والاستدراك، وأبرز ملامح المدرسة العراقيّة في علم تحقيق النُّصوص، وهي محاور تناوب المُدرّبون الثّلاثة على تقديمها تباعًا، وخُصّصت أيّام الدّورة الأخيرة لدروس تطبيقيّة في مُقابلة نُصوصٍ على أكثر من نُسخة خطّية، ابتدأت بنُسختين وانتهت بأربع نُسخ. هذا فضلًا عن ثماني محاضرات، ألقاها ثمانية محاضرين مختصّين عن خلاصات تجاربهم.
وقد حقّقت الدّورة نجاحًا كبيرًا بشهادة المشاركين والمنظّمين والمتابعين، وحاز على مراتب الفوز الثّلاث الأُولى فيها، كلٌّ من: المُتدرّب علي فالح حدّاد فائزًا أوّلَ، وهو كاتب روائيّ حائز على البكالوريوس في الفلسفة من جامعة البصرة، والمتدرّب عمر ضياء عبّاس عبد الطّائي فائزًا ثانيًا، وهو تدريسيّ في كلّيّة العلوم الإسلاميّة بالجامعة العراقيّة حائز على الماجستير في الفقه المقارن من كلّيّة الإمام الأعظم ببغداد، والمتدرّب سلطان صلاح ماجد المالكي فائزًا ثالثًا، وهو باحث شاب له مقالات منشورة في بعض المجلّات والصّحف، وينتظم طالبًا في كلّيّة التّربية بالجامعة المستنصريّة- قسم التّاريخ. وقد حصلوا في حفل الختام على شهادات بالفوز ومكافآت ماليّة.
يقول عجيل المشرف على الدّورة: إنّ "المخطوطات العربيّة هي أوعية المعرفة الّتي نقل بها العرب والمسلمون النّاطقون بلغتنا الكريمة، ثمراتِ العقل البشريِّ إلى كلِّ بني الإنسان، وإنّ الهدف النّبيل الذي تُقام هذه الدّورةُ وما يتبعها من دورات لأجله، هو إحياء المُحتجَنِ فيها من علومِ الأسلاف وآدابِهم وفنونهم على وفقِ آليّاتٍ ترسّخت عبر القرون في علم تحقيقِ النُّصوصِ الخطيّة"، مبيّنًا أنّ المشاركين في الدورة تلقّوا دروسًا مكثّفةً، نظريةً وتطبيقيةً، لاستجلاء ملامحِ هذا العلم.
وأضاف أنّه "جرى التّعاون والتّنسيق مع إدارة التّحريرِ في مجلّة (المورد) التُّراثيّة المُحكّمة، لأجلِ أن تكون الموئل النّهائيّ لنشر مُخرجات الدّورات، وهذا هو العنصر الثّاني المهمّ الّذي يمنح هذا المشروع قيمةً مضافةً، فليست هذه دورة وتمضي، ويمضي المُشاركون فيها إلى سُبُلِهِم من دون رعاية، بل هي بداية رحلةٍ في عوالمِ تحقيقِ النُّصوص أشبه ما تكون برحلة الأكاديميّ في كتابة رسالته أو أُطروحته الجامعيّة".
ولأنّ هذه المشروع الكبير- بسقف طموحاته العالي- بحاجةٍ إلى دعمٍ وتمكين مستمرّين وأبوابٍ مفتوحةٍ، فقد تبنّته إدارتا دار الشّؤون الثّقافيّة العامّة ودار المخطوطات العراقيّة، ووعدتا بعد النّجاح المشهود للدّورة الأُولى باستمرار الدّعم وعقد دورات أُخرى، وعلى تمتين الشّراكة الثّقافيّة بينهما لفتح الأبواب أمام الدّارسين والرّاغبين بالعمل في هذا المجال، من أجل إتمام تحقيق عدّة آلاف من النّصوص التّراثيّة الخطّيّة تزخر بها خزائن دار المخطوطات العراقيّة وغيرها من موائل حفظ المخطوطات في البلاد.
وفي هذا الصّدد قال الدّكتور عارف السّاعدي المدير العامّ لدار الشّؤون الثّقافيّة في حفل افتتاح الدّورة أنّها "تأتي لإنعاش درس التّحقيق الّذي افتقدته كلّيّاتنا وجامعاتنا في الأعوام الأخيرة"، واعدًا أن تتبنّى الدّار طباعة سلسلة كتب محقّقة ونشرها، فضلًا عن الدّور المستمرّ لمجلّة (المورد) الصّادرة عن الدّار في نشر البحوث والكتب المُحققّة. فيما أعلن الدّكتور حسن عبد راضي رئيس تحرير (المورد) في حفل ختام الدّورة، أنّ المجلّة تُخطّط لإصدار عدد خاصّ يضمّ النّتاج التّحقيقيّ الّذي سيُنجزه المُشاركون في هذه الدّورة والّتي تليها، تحت إشراف مُدرّبيهم المحترفين.