نبوءة فرانكلين

آراء 2024/08/19
...

 ناجي الغزي 


نطرح في هذا المقال سرداً تاريخياً مليئاً بالتفاصيل عن تطور النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة.  وتحليلاً عميقاً لدور اليهود في تشكيل التاريخ الأميركي والقرار السياسي، وذلك من خلال استعراض مسار هجرتهم وتطور نفوذهم الاقتصادي والسياسي في الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، نسرد كيف أن التحالفات السياسية والمصالح الاقتصادية، كانت تدفع الولايات المتحدة نحو تأييد السياسات الصهيونية، رغم الشكوك أو التحفظات الشخصية لبعض القادة.


البداية

البداية كانت في قلب المؤتمر التأسيسي للدستور الأميركي بمدينة بنسلفانيا عام 1787، وقف أحد أعظم الآباء المؤسسين (بنيامين فرانكلين) وهو كاتباً وفيلسوفاً وسياسياً حاذقاً،  أمام زملائه الـ 55 عضواً، داخل قاعة التشريعات محذراً من خطر يراه يلوح في الأفق. خطر لم يكن من قوى خارجية أو مؤامرات سرية، بل كان في قلب الأمة الوليدة. كانت تلك النبوءة التي أطلقها فرانكلين حول “اليهود” واحدة من أكثر اللحظات إثارة للجدل في تاريخ أميركا. وبغض النظر عن التشكيك في صحة الخطاب المنسوب إليه. 

إلا أنه يعكس خوفاً مبكراً من نفوذ اليهود على المجتمع الأميركي. وصف فرانكلين اليهود بأنهم سيقوضون القيم الأخلاقية ويهيمنون على الاقتصاد والسياسة إذا لم يتم تقييد دخولهم إلى البلاد!. فقد كان لهذا الخطاب  تأثير هائل على الطريقة، التي تطورت بها العلاقات بين اليهود وأميركا على مدى القرون التالية.

وهذه التحذيرات كانت تعتبر بالنسبة للبعض نبوءة متقدمة جدا تحققت مع مرور الزمن. فخلال قرنين من الزمان، تمكن اليهود من التغلغل في مختلف قطاعات الحياة الأميركية، مما أدى إلى زيادة نفوذهم وتأثيرهم على السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة.


تأثير اليهود على السياسات الأميركية: بين الواقع والنبوءات التاريخيَّة

تطور الوجود اليهودي في الولايات المتحدة وتأثيره على السياسات الأميركية من القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين. يعيدنا التاريخ إلى سقوط الأندلس عام 1492 وهجرة اليهود إلى الدولة العثمانية وهولندا، ومن ثم انتقالهم إلى المستعمرات الهولندية في العالم الجديد، بما فيها مستعمرة راسيف في البرازيل، ثم نيو أمستردام (نيويورك حالياً). 

شهدت نيويورك، التي كانت تعرف سابقاً باسم (نيو أمستردام) وصول 23 يهودياً على متن سفن قراصنة. في البداية، واجه هؤلاء اليهود رفضاً من محافظ المدينة، الذي وصفهم بأنهم (أبناء الدين المزور) ورفض منحهم حقوقاً مدنية. ومع ذلك، تغيرت الأمور عندما استولى الإنجليز على المدينة عام 1744، حيث نال اليهود حقوقهم المدنية، بما في ذلك بناء دور العبادة وفتح المحال التجارية.

تزايد عدد اليهود في أمريكا تدريجياً، إذ بلغ عددهم أربعة آلاف في عام 1820، وارتفع إلى 15 ألفاً في عام 1840. بحلول عام 1861 وصل عدد اليهود إلى 150 ألفاً، منهم 40 ألفاً في نيويورك. وخلال الفترة من 1881 إلى 1924، هاجر حوالي مليوني يهودي من روسيا ودول أوروبية متعددة إلى الولايات المتحدة، مما عزز وجودهم وتأثيرهم في المجتمع الأميركي.

يبدو أن نبوءة فرانكلين تحقق بعضاً منها مع مرور الزمن، حيث أصبح اليهود قوة مؤثرة في السياسة والاقتصاد والإعلام الأميركي، ويذكر تأييد الرئيس الامريكي هاري ترومان لليهود رغم قناعاته الشخصية ضدهم، ولكن تأثير شريك أعماله القديمة جاكوسون وهو يهودي غير متدين، وكان يثق به جدا. وهو ما أدى إلى دعم قرار تقسيم فلسطين عام 1947، واعترافه بدولة إسرائيل في 14 مايو عام 1948، بعد أحد عشر دقيقة من وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل.



الخطاب المثير للجدل:

بحسب النص المنسوب إلى فرانكلين، قال في خطابه بالمؤتمر التأسيسي للدستور: “هناك خطر عظيم يهدّد الولايات المتحدة الأميركية، ومصدر هذا الخطر هو اليهود.” كان فرانكلين يرى أن اليهود، أينما وجدوا، يسعون دائماً لتحقيق مصالحهم الخاصة على حساب المجتمعات، التي يعيشون فيها. وأعرب عن قلقه من أن تدفق اليهود إلى الولايات المتحدة قد يؤدي إلى هيمنتهم على الاقتصاد وتدمير القيم الأخلاقية للمجتمع الأميركي.

وأشار إلى تجارب الدول الأخرى مع اليهود، مثل البرتغال وإسبانيا، حيث رأى أنهم استخدموا نفوذهم المالي لخنق الشعوب والدول. وأطلق تحذيراً صارخاً مفاده أنه إذا لم يتم تقييد دخول اليهود إلى أميركا بنص دستوري، فإنهم سيغمرون البلاد ويغيرون طبيعتها بشكل جذري خلال مئة عام.

تحقيق النبوءة:

مرت قرون منذ أن ألقى فرانكلين هذا الخطاب، ومع مرور الوقت، تزايد نفوذ اليهود في الولايات المتحدة بشكل ملحوظ. من جالية صغيرة، أصبح اليهود قوة اقتصادية وسياسية وإعلامية كبيرة. ومع تدفق المهاجرين اليهود من روسيا وأوروبا خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ازداد عددهم وتأثيرهم بشكل

 كبير.

لقد تحقق بعض مما حذر منه فرانكلين، حيث أصبح اليهود جزءاً لا يتجزأ من مصدر القرار السياسي والاقتصادي الأميركي. استغل اليهود في امريكا هذا الخطاب لمهاجمة فرانكلين واتهامه بمعاداة السامية. ومع ذلك، فإن السؤال الذي يثيره هذا المقال هو ما إذا كانت هذه النبوءة التي أطلقها فرانكلين قد تحققت فعلاً بالشكل الذي تنبأ بها، أم أن الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك؟


صراع القيم والسلطة:

يظهر التاريخ الأميركي أن العلاقة بين اليهود والمجتمع الأميركي كانت دائماً معقدة ومتعددة الأوجه. فقد كان هناك دعم كبير من بعض القادة الأميركيين لليهود، كما حدث مع الرئيس هاري ترومان، الذي رغم قناعاته الشخصية السلبية تجاههم، قدم دعماً كبيراً لإسرائيل 1947. وكذلك بقية الرؤساء والسياسيين، لأنهم اصبحوا ورقة ضغط كبيرة على القرار السياسي الامريكي.

وذلك من خلال صعود النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة الذي كان ولا يزال جزءاً من صراع أوسع حول القيم والسلطة. فبينما كان بعض الأميركيين يرون في اليهود تهديداً لقيمهم ومؤسساتهم، كان آخرون يرون فيهم شركاء في بناء أميركا الحديثة.

وبفضل هذا النفوذ اليهودي القوي على مفاصل الحياة الامريكية عزز التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل، مما أدى إلى هيمنة المنظمات اليهودية على مراكز القرار الأميركي. الذي يشهد تأثير اليهود على الكونغرس الأميركي، حيث يظهر تصفيق الأعضاء لخطابات نتنياهو كدليل على هذا النفوذ.

وعلى الرغم من التأثير الكبير الذي يمارسه اليهود في الولايات المتحدة، إلا أن هذه القوة لم تكن دائماً كافية للتغلب على التحديات التي تواجهها أميركا في الساحة الدولية. فقد أثبتت تجارب مثل حرب غزة قدرة الشعوب على مقاومة الهيمنة الأميركية والصهيونية، مما يبرز حدود النفوذ اليهودي.


الخلاصة:

لقد أصبحت نبوءات فرانكلين جزءاً لا يتجزأ من الجدل المستمر حول دور اليهود في الولايات المتحدة. وبينما يرى البعض أن فرانكلين كان على حق في تحذيراته، ويرى آخرون أن هذه النبوءة كانت مفرطة في التشاؤم وأن اليهود قد أسهموا بشكل إيجابي في بناء أميركا.

سواء كانت نبوءة فرانكلين قد تحققت بالكامل أم لا، فإن تأثيرها على التاريخ الأميركي لا يمكن إنكاره. لقد كانت لحظة حاسمة ألهمت العديد من النقاشات حول مستقبل أميركا وهويتها، ولا تزال تثير الجدل حتى يومنا هذا.