كيف نفهم أهمية زيارة الأربعين ؟

ريبورتاج 2024/08/21
...

 حازم رعد

تعد زيارة الأربعين واحدة من أهم الكرنفالات الدينيَّة والشعائريَّة التي يحييها المسلمون بعد مضي أربعين يوماً من ذكرى موقعة الطف التاريخيَّة في العاشر من المحرم الحرام التي استشهد فيها الإمام الحسين ورفاقه وأهل بيته في كربلاء المقدسة. تكتسب شعيرة الأربعين أهميتها الدينيَّة والعقديَّة من خلال أمرين: الأول أنها مرتبطة بثالث أئمة أهل البيت المعصومين «ع» وعادة ما يمارس أهل المتوفى ومحبوه تقليداً كانوا قد ألفوه فيحيون ذكراه لأربعين يوماً من وفاته.
وكما أنَّه وردت في الآثار الدينيَّة نصوصٌ وفيرة تحضُّ المسلمين على حضور تلك الزيارة وعدم تفويتها، بل إنَّ بعض تلك النصوص عدَّتها من علامات الإيمان؛ ذلك لتأكيد أهميتها وضرورة الاستمرار عليها؛ لأنَّ فيها عمليَّة شدٍ عاطفي مع القائد والملهم، كما أنَّ فيها إلهاباً مستمراً لشعلة الثورة ضد الظالمين وإحياء هذه الزيارة يجيء في سياق الإبقاء على جذوة الثورة في النفوس.
أما من حيث الأهميَّة «الثقافيَّة» وهي المنطقة الأوسع شمولاً والأكبر احتواءً لحصص ونشاطات شعبيَّة «جماعاتيَّة» فإنَّ اتفاق العراقيين بمختلف توجهاتهم وتنوع السرديات التي يؤمنون بها على هذه الشعيرة أعطتها طابعاً ثقافياً معبراً عن ذلك الاشتراك والتلاحم والانسجام بينهم كشعبٍ يؤمن أنْ يخصَّ الآخر الديني «ببعده العمومي والشعائري» يمكن أنْ يكون مشتركاً ثقافياً يسهم في تلاحمهم واصطفافهم «في هويَّة ثقافيَّة مشتركة» وهذا ما انعكس في الواقع وجعلهم يقدمون بلا تردد على إحياء هذه الشعيرة وهذا ما أعطى هذه الشعيرة أو الطقس بعده الثقافي الذي يتفاعل عنده الأفراد في الخارج ليشكل قاعدة وظاهرة عراقيَّة عامَّة.
ناهيك على أنَّ هذه الشعيرة كانت ولا تزال تمثل جواً من الاشتغال والتفاعل الاجتماعي بين فئاتٍ عديدةٍ من الشارع العراقي «بعيداً عن اختصاصها بمحبي أهل البيت «ع»» وتتشكل نتيجة تكرار ممارستها والمداومة عليها وعدّها بمرور الزمان معلماً يكون الهويَّة الثقافيَّة لجماعة من الناس أو لجماعات تشترك في العيش في جغرافيا واحدة، وتقوم هذه الجماعات بالاشتراك في أدائها والسهر على بقائها واستمرارها جموعٌ ليست بالقليلة من الطوائف الأخرى مثل الصابئة والمسيح والمسلمين السنَّة، فلا غرابة أنْ ترى مواكب ومشاهد تحملُ رمزياتٍ تعبِّرُ عن حجم المشاركة لتلك الطوائف في هذا الكرنفال الشعائري المهيب، فتتجلى في يوم الأربعين أروع المعاني والقيم الأخلاقيَّة، فترى الأُلْفَة والمودة وحبَّ الآخرين وحبَّ التبرك بضيافتهم هو الشعور المشترك عند الجميع، فكل المشاركين فيها يشعر وكأنه ملكٌ للجميع فلا أحد يتحسس الندم في البذل والعطاء لزوار الأربعين، والجميع فيها يشعر وكأنه مسؤولٌ عن الجميع وعن أمنهم وسلامتهم وخدمتهم، وكل ذلك يحصل بعفويَّة وتلقائيَّة تامَّة وبجهودٍ ذاتيَّة مستقلة عن مؤسسات الدولة الرسميَّة، فاعتقاد الناس قائمٌ على أنَّ في ذلك مواساة لآل بيت النبي من جهة، واستنكاراً لما صُنِعَ بهذه الأسرة من تنكيلٍ وظلمٍ أوقعته السلطة آنذاك بهم فهم يستحضرون تلك الواقعة كتعبيرٍ عن رفض الظلم واستنكار الاستبداد السياسي من جهة والتعاطف الإنساني مع المظلومين والمضطهدين من جهة أخرى.
ليس ذلك فحسب فالمناسبة المشار إليها تحديداً اكتسبت أهميَّة أخرى وبعداً ستراتيجياً آخر وهو ما نستطيع أنْ نصنفه بأنَّه عالميٌّ أو دوليٌّ «وقد يكون هذا اللون من الحديث مغرياً للغاية ومستغرباً كذلك» إلا أنَّ الواقع خيرُ برهانٍ يستدلُّ به على ذلك، إذ يشترك في هذه الزيارة وبحسب الإحصائيات الرسميَّة للحكومة زوارٌ وسواحٌ وصحفيون وإعلاميون ونشطاءٌ في مجال التفكير الشرق أوسطي أو متخصصون في الدراسات الإسلاميَّة من دولٍ مختلفة يقعُ السهم الأكبر فيها للدول الإسلاميَّة والعربيَّة ثم تأتي بالترتيب دولٌ أفريقيَّة وغربيَّة وأوروبيَّة، وهذا ما يعطي لهذه الشعيرة بعدها الشمولي العام المفتوح على منفسحاتٍ كوكبيَّة رفيعة المستوى، وذلك ما يوضح أهميتها على المستوى العالمي فهي «الأربعين» آخذة بالتفتق والتوسع لتصبح حدثاً عالمياً هو الأكبر من بين جميع الكرنڤالات الثقافيَّة والشعبيَّة التي تحتفي بها الشعوب والبلدان من حيث الحشد الجماهيري والتوجه الديني والتواصل الثقافي والإيماني وما الى ذلك من أمورٍ أخرى معبرة عن حجم الألفة والترابط والاتصال في هذا الكونفال.
ناهيك عن أنَّ البلد الذي يحظى بهكذا لونٍ من الكرنفالات يكسبه ذلك قوة دينيَّة وثقافيَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة ويمكن استثمار ذلك ليعود بالفائدة على الدولة ومواطنيها على أصعدة ومستوياتٍ مختلفة، إذن فأهميَّة هذه الشعيرة تعدت كونها دينيَّة أو طقوسيَّة لتفتح منافذ الأهميَّة على صعدٍ أخرى أكثر جدوى من نواحٍ متنوعة، فالعراق كما هو حاضرة تاريخيَّة ضاربة في القدم، هو كذلك حاضرة دينيَّة وثقافيَّة منذ الطفوف حاضرة بالإمام الحسين هذا العنوان الكبير صار حداً ورسماً للعراقيين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم.
وأضحت كربلاء المقدسة عاصمة معنويَّة تتجاوز الحدود والقيود عاصمة تهفو إليها القلوب بصفائها ونقائها، إنَّ أوجه الأهميَّة في هذا الكرنڤال متعددة ومختلفة ولكل وجهٍ من تلك الوجوه شواهده وعناصر قوته، وحريٌ ببلدٍ تقام فيه أنْ يهتمَّ بها بشكلٍ استثنائي تبعاً لأهميتها ومعطياتها ومخرجاتها التي تجعلها من الأهميَّة بمكانٍ بحيث تكون محل احترام واهتمام الدولة
والمجتمع.