بين لويس بورخس والليالي الألف

ثقافة 2019/06/17
...

نصير فليح
 
 
قرأت مرة للويس بورخس، المعجب كثيرا بالف ليلة وليلة، انها يراها نصا توليديا ايضا. اذ كثيرا ما يقرأ أو يصادف نصوصا ذات صلة بها، لا يجدها في النسخ التي لديه او التي قرأها، ويعطي مثلا على ذلك حكاية الساحر الذي يبحث عن علاء الدين في بلاد الصين، فيضع اذنه على الارض ليسمع وقع الخطى ويستطيع تمييز خطوات علاء الدين والاستدلال على مكانه بالتالي. 
الفكرة التوليدية في ألف ليلة وليلة لا تولد الخيال الجامح الرائع فقط، بل الحكمة المرتبطة بذلك الخيال. وقد عادت هذه الفكرة الى ذهني بقوة وانا استمع لأجزاء من رائعة الإذاعة المصرية من ايام الستينيات من ألف ليلة وليلة، إذ وجدتُ فيها حكايات مليئة بالحكمة والجمال، لا أذكرها في النسخ التي قرأتها او تصفحتها
 سابقا.
 
الواقعية السحرية
في هذا العمل الإذاعي التمثيلي من ارشيف الاذاعة المصرية، هناك العديد من الحكايا المؤداة بروعة واتقان. ولكني اختار منها هنا ثلاثاً: حكاية الشحاذ الضرير الذي لا يقبل حسنة من أحد الا اذا تم صفعه على وجهه من المحسن اليه! وحكاية الفارس الذي يدور في ساحة على فرس من الصباح الى المساء وهو يشبعها ضربا صائحا بكل صوته: “دوري! دوري! دوري يا دايرة..دوري الدايرة..لا تعرفي أولها..ولا تعرفي آخرها..دوري!” وحكاية رجل شعاره “أصاحب يوم وأفارق دوم!” حيث يستضيف العابرين يوما واحدا فقط يكرمهم أشدّ الكرم، ليطردهم بعد ذلك أشرّ طردة! وتتكشف الحكايا الثلاث لاحقاً عن حكمة عميقة تمثل مواقف حدية ثلاثة في الحياة: الندم الأقصى، والغيظ الأقصى، والشك الأقصى. 
في داخل كل منا، إذا ما تمعنا جيدا، نجد شيئا من الندم أو الغيظ او الشك، فهذا هو حال البشر منذ سكناهم في هذه الارض، وهو ما نراه ونعيش شيئا منه في كل وقت وساعة، ولكن ان يتم تقديم ما هو واقعي وشديد التعبير من خلال خيال جامح او فنطازيا شعبية مدهشة فهو جمع رائع بين عنصرين يحيلنا – في ما يحيلنا إليه – الى الاتجاه الادبي المعروف “الواقعية السحرية” والذي كان بورخس نفسه من أبرز رواده.
فالشحاذ الضرير يعيش حالة الندم الأقصى لأنه اضاع حاله وماله وبصر عينيه أيضا بسبب الجشع الذي لا يحدّه حد، ولأنه لم يحفظ العهد الذي قطعه على نفسه مرارا وتكرارا، فوصلت به الاقدار الى الهوة التي لا خروج منها، ولم يبق له في ما تبقى من حياته سوى أن يشبع نفسه ضربا عقابا على ما لا يمكن استردادها أبدا. أما قصة الفارس فهي تعبير عن غيظ رهيب، فهو يحيا فقط ليعاقب هذه الفرس التي كانت يوما إمرأة، وتبدى له بعد ذلك انها غولة تأكل لحوم الموتى، وبعد أن كشف أمرها انقلبت عليه ومسخته كلباً، لكنه استطاع بعد ذلك فك سحرها وقلبها هي نفسها الى فرس، ليعيش باقي حياته تنفيسا عن غيظ لن يهدأ او يسكن له قرار. أما الشك الأقصى، فحالة كثيرا ما تتردد في فننا الشعبي الشعري ايضا، أي حالة غدر الاخوان والاصدقاء في أوقات الشدة. فقد كان المذكور رجلا ثريا وذا مال وجاه ذات يوم، وله أصحاب كثيرون، ولكن عندما دارت الدنيا عليه وجد ان اصحابه تخلوا عنه جميعا. وبعد أن أعادت الدنيا وجهها صوبه مرة أخرى، وعاد اليه حاله الحسن، ابتنى قصرا في مدينة بعيدة، يستظيف فيه الغرباء يوما واحدا فقط، ثم ينقلب عليهم فجأة طاردا اياهم أقسى طردة، لكي لا تظل اي مودة بينهم وبينه، ولا يرون بعضهم بعضا بعد ذلك أبدا. فهو الرجل الذي “يصاحب يوم ويفارق
 دوم”.
 
تنوع المصائر الوحشي
هذه الحالات تحيلنا الى قصة للويس بورخس نفسه مرة أخرى، وهي “اليانصيب في بابل”. وفي رأيي المتواضع، هي من أجمل ما قرأت من نصوص قصيرة. في بداية القصة يقدم الراوي نفسه وحاله التي تقلبت عليها الايام حتى وصل الى حاله الشنيعة، مستعرضا تقلبات الاقدار العجيبة التي مرت عليه، او ما يسميه بورخس “التنوع الوحشي” في الاقدار والمصائر. لنستكشف بعد ذلك انه رجل من بابل، وان السبب وراء حياة كهذه هي لعبة اليانصيب. هذه اللعبة التي بدأت في بابل ذات يوم قبل قرون بممارسات بسيطة في محال الحلاقة حيث كانت تباع حظوظ الاقدار، لتتحول بمرور الزمان الى شركة او مؤسسة عملاقة تبتلع كل شيء، ولا تكافئ الرابحين فقط، بل يمكن أن ترمي بالمنحوسين في أحوال رهيبة! يتبدى بعد ذلك، لمن يتمعن في القصة، ان الكناية هنا عن لعبة المصائر نفسها، والتقلب العجيب في أحوال البشر، وأن المؤسسة أو الشركة المزعومة ليست سوى تعبير عن هذا التنوع الوحشي الرهيب في أقدار البشر ومآلاتهم.
ونعود لنسأل مرة أخرى، اليست هذه حالنا جميعا، على نحو ما؟ عندما نستذكر ما تخيلناه لحياتنا وما صارت إليه فعلا؟ إن النصوص العظيمة، مثل مفخرة الادب العربي ألف ليلة وليلة، او نصوص بورخس، كثيرا ما تجد لها مشتركات في خصوبة استثنائية من الخيال والجمال والحكمة العميقة. وهي بكل غناها هذا تنقل هذه الخصوبة الى فكر ونفس المتلقي أيضا، لتجعله يتمعن كثيرا في ما يمكن لخيال، شديد اللاواقعية، ان يقدمه من حكمة شديدة الواقعية.