ما بعد الإنسانيَّة.. المستقبل بوصفه تحوّلاً دائماً
صفاء ذياب
لم تتوقف ما تسمّى بـ(البعديات) عند ما بعد البنيوية وما بعد النقد وما بعد الحداثة وما بعد الحداثة، بل استمرّت إلى ما بعد الإنسان بعد أن قدّم ميشيل فوكو فلسفته عمّا بعد الإنسان. غير أنَّ هناك مصطلحاً ظهر منذ سنوات بدأ بالتوسّع يوماً بعد يوم، لاسيّما بعد التطوّر التكنولوجي الهائل الذي حصل ما بعد العام 2000، والسرعة الهائلة لهذا التطوّر جعل من العلوم والفلسفات تسير في مسارات مغايرة عمّا كان مطروحاً قبل هذا التاريخ، وهو ما يطلق عليه (ما بعد الإنسانية).
وبحسب التعريفات الرائجة، فإنَّ ما بعد الإنسانية حركة فكرية وفلسفية تدعو إلى استخدام العلوم والتكنولوجيا المتطوّرة بشكل عام لتعزيز القدرة الإنسانية العقلية والفيزيائية وقدرة تحمّله وحتّى إلغاء ما يعدُّ غير مرغوب في معظم الأحيان مثل الغباء، المعاناة، المرض، الشيخوخة. وأخيراً التخلّص من الموت. ويدرس مفكّرو ما بعد الإنسانية الفوائد والمخاطر المحتملة للتكنولوجيات الناشئة التي يمكن أن تتغلّب على القيود البشرية الأساسية، فضلاً عن أخلاقيات استخدام هذه التكنولوجيات. كما يعتقد بعض أنصار ما بعد الإنسانية أنَّ البشر قد يكونون في نهاية المطاف قادرين على تحويل أنفسهم إلى كائنات ذات قدرات متوسّعة بشكل كبير عن الحالة الطبيعية، إذ تستحق مسمّى كائنات ما بعد الإنسان.
مفاهيم أولى
لم يكن هذا المصطلح وليد هذا العقد، بل سبقه بسنوات وإن كانت قليلة، فبحسب الباحث حبيب سروري، فالعلوم الحديثة قادت الفيلسوف الألماني الكبير، بيتر سلوتيرجيك، في العام 1999، لإطلاق مصطلح: ما بعد الإنسانية، Posthumanism، على تيّار فكري يدرس العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا الحديثة، ومستقبلها الذي سيغيّر تركيب الإنسان وعاداته وطبيعته، فقد استخدم الفيلسوف مصطلح: الإنسانية الانتقالية Transhumanism، كمرحلة تمهيدية لما بعد الإنسانية... غير أنَّ هذا المصطلح الثاني صار شديد الانتشار اليوم، بل غمر مؤخّراً مدلول المصطلح الأول، وصار وحده يعني: ما بعد الإنسانية، وبمدلول محدّد دقيق: خلقُ إنسانٍ “معزَّز”، Augmented، يتجاوز نوعنا البيولوجي الحالي: هومو سابيانس، يمتزج فيه عضوياً بيولوجياً الإنسان الحالي ببرامج الذكاء الاصطناعي ومنتجاته الإلكترونية، بغية الوصول إلى إنسان أقدر وأذكى، يهزم الأمراض والعاهات والموت، يُطلق عليه أحياناً: هومو ديوس، “الإنسان الإله”.
ويضيف سروري: قبل قراءة نقدية لمفهوم ما بعد الإنسانية، بمدلوله هذا، يلزم ملاحظة أنَّ العلاقة العضوية بين الإنسان والآلة لها اليوم إنجازات ملموسة حقيقية، وليست مجرد أضغاث أحلام للخيال العلمي، فأجهزة علم الأحياء الإلكتروني، كالأيدي الاصطناعية، هي حقيقة اليوم. وتستطيع القرود، بعد تدريبها، استخدامها عن بُعد، بفضل رقائق مغروسة في أدمغتها. كما يمكن اليوم للإنسان المعاق تحريك يد صناعية، بمجرّد التفكير بذلك، بفضل جهاز يحيط بالرأس مثل سماعات الآيبود... ومنذ عامين، تمَّ غرس رقائق إلكترونية بحجم حبّة الرز في أصابع آلاف السويديين، تحتوي على معلومات تهمهم، كأرقام بطائقهم البنكية، وهذا كلّه من دون الحديث عن الرحم الاصطناعي الذي صار يشتغل، منذ العام 2017، لإنجاب بعض الحيوانات.
ما الذي حدث؟
هناك من يرى أنَّ من أوائل من تبنّوا فكر بعد الإنسانية عالم الجينات البريطاني جيه. بي. إس هالدن، الذي تنبَّأ في مقالة نشرت العام 1924 بعنوان Daedalus Or Science and the Future (دايدالوس أو العلم والمستقبل) بكثير من الفوائد المهولة التي ستتحقّق مستقبلاً مع تطوّر العلوم، ولاسيَّما علم الأحياء. وتوضّح الكاتبة سميّة نصر أنَّ هالدن تنبأ بإنتاج نسخة مصنّعة من الهرمونات الأنثوية التي ستحسّن صحّة النساء في مرحلة انقطاع الطمث وما قبلها، وقال إنَّ “القضاء على الأمراض سيجعل الموت حدثاً فيسيولوجياً مثله مثل النوم”. واهتمَّ هالدن بشكل خاص في مقاله بزراعة الأجنّة خارج أجسام الحيوانات و”علم” تحسين النسل، وتطبيقات علم الأحياء والجينات لتعزيز صحّة البشر وتنمية ذكائهم.
في ما يعدُّ عالم الأحياء البريطاني جوليان هاكسلي على نطاق واسع مؤسّس الحركة، إذ كان السبب في انتشار المصطلح بعد أن استخدمه عنواناً لمقاله المنشور العام 1957، الذي ذكر فيه أنَّه سيكون باستطاعة الجنس البشري تحطيم القيود التي تحدّد قدراته: “نستطيع بالفعل، ولدينا مبرّراتنا، أن نؤمن بوجود هذه الفرص والإمكانيات، وبأنَّ بإمكاننا إلى حدٍّ كبير التغلّب على القيود والإحباطات التعيسة لوجودنا. لدينا بالفعل ما يبرّر اقتناعنا بأنَّ حياة البشر كما نعرفها عبر التاريخ حياة مؤقّتة بائسة متجذّرة في الجهل، وأنَّه باستطاعتنا تخطّي حدودها والتوصّل إلى وجود يستند إلى ضوء المعرفة والعلم”.
وتبيّن الكاتبة والمترجمة لطفية الدليمي أنَّ مصطلح ما بعد الإنسانية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنسان المعزّز رقمياً بصورة مكثفة، ويشيرُ إلى حالة وصفها العالم البحّاثة ذائع الصيت راي كيرزويل في كتابه الأشهر (المرحلة التفرّدية قريبة)، ثمّ أكمل رؤيته في كتاب آخر بعنوان (عصر الآلات الروحية).
مفردة التفرّدية (Singularity) الواردة في عنوان كتاب كيرزويل مفردة لها أهميتها الكبيرة، وذات مدلول دقيق، وتعني بشكل عام حالة تختلف نوعياً- وعلى نحوٍ جذري- عمَّا هو سابق لها، وما هو لاحق عليها. وفي حالة العالم الرقمي والذكاء الاصطناعي، تعني تحديداً تلك الحالة التي لا يمكن فيها للإنسان متابعة استمرارية وجوده من غير دعمٍ (جزئي أو كلّي) من الوسائط الرقمية التي ستتجاوز مرحلة الوسائط الخارجية (مثل الذاكرات الحافظة للبيانات، والهواتف النقالة، وقارئات الكتب والنصوص... إلخ)، لكي تصل مرحلة التداخل البيولوجي مع وظائف الكائن الحي (الرقاقات المزروعة في الدماغ البشري، وأجهزة تدعيم السمع أو الرؤية، والوسائط التي تسمح بخلق بيئات افتراضية ذات سمات محددة، ولأغراض محدّدة هي الأخرى... إلخ). وما يدعو للدهشة أنَّ كيرزويل وضع تأريخاً هو 2029، رأى فيه أنَّ الكائن البشري لابدَّ أن يستعين بعده بشكل من أشكال المؤازرة الرقمية الجزئية. أمَّا لحظة التحوّل التفرّدي الثوري العميق والشامل، فستحصل مع العام 2045! فحينها، لن يعود بمستطاع الكائن البشري التعامل مع بيئته من غير قدرات احتسابية، ومُعالِجات للمعلومات والبيانات تفوق قدرته الذاتية، مهما توافر على قدرات بيولوجية وعقلية متفوّقة.
ربّما كان الحديث في القرن العشرين عمّا بعد الإنسانية بشكل خاطف أو بمقترحات للبحث عن إنسان يتفوق على إنسانيته، حسب مصطلح نيتشه. في حين لم يقدّم هؤلاء الباحثون والعلماء تأسيساً علمياً للمصطلح وتطبيقاته، وبقي مجرّد مقترحات حتى القرن الحادي والعشرين، الذي كان منطلقاً للتأسيس لما بعد الإنسانية وتطبيقاته العديدة، حتى أصبحت تعنى بالتغييرات الإنسانية الحادثة على البشر بعد الانتشار الواسع للتكنولوجيا المتقدمة التي توقّعت شكل البشر في المستقبل القريب والتغيرات الحادثة عليهم بالأخذ في الاعتبار قدراتهم الحاليّة.
وتنقل أسماء العمر بأنّها حالياً حركة تطورية تسعى إلى تطوير قدرات الإنسان الفكرية والجسدية لمواكبة التطور التكنولوجي المتقدم، مثل مساعدة التكنولوجيا للقضاء على الشيخوخة أو أمراض الزهايمر على سبيل المثال كنوع من أنواع تطوّر البشر الجسدي والفكري ليكونوا أكثر قدرة على مواكبة الركب الرقمي المتطوّر بشكل سريع، فإن كانت الآلة ستفكر بسرعة تصل إلى عشرات أضعاف سرعة الإنسان، فهذا لا يعني أنَّ الإنسان سيتوقّف عند المستوى الذي هو عليه الآن فحسب.
الإنسانية المحتملة
لم تتوقف ما بعد الإنسانية عند حدود معيّنة، فعلى الرغم من ارتباطها بطرفي الإنسان والتكنولوجيا، غير أنَّ أهم ما يميّز هذا الإنسان هو الأحاسيس التي يقدّمها هو، ولا يمكن للآلة تقديمها حتى وإن بلغت أقصى درجات التطوّر، وهذا ما تؤكّده روزي بريدوتي في كتابها (نسوية ما بعد الإنسانية)، مبينةً أنَّ ما بعد الإنسانية أظهرت أنَّ الفن لعب دوراً أكثر مركزية، إذ اندمج مع العلوم والحوسبة والتكنولوجيا الحيوية في إعادة تشكيل الشكل البشري وإتقان الذوق الاصطناعي. وكانت الرسالة واضحة: لقد أصبحت ملذّات الأشياء غير العضوية طبيعة ثانية، ما أدّى إلى خلق علاقة حميمة أعمق مع الصناعات التكنولوجية.
وتضيف: قد يكون من الصعب على الأشخاص الذين لم يُنظر إليهم مطلقاً على أنَّهم بشر بشكل كامل اجتماعياً وسياسياً أن يتبنّوا علاقة إيجابية مع مأزق ما بعد الإنسانية. النساء، وأفراد مجتمع المثليين، والشعوب الأصليّة المُستَعمَرة، والأشخاص الملوّنون، وعدد كبير من غير الأوروبيين الذين اضطرّوا تاريخياً إلى النضال من أجل الحق الأساسي في اعتبارهم ومعاملتهم كبشر، لديهم في أفضل الأحوال علاقة متناقضة مع الإنسانية التي كانوا عليها والاستمرار في حرمانهم من القبول. لكنَّ وجهة نظري هي أنَّ هذه الفكرة السائدة والإقصائية عن الإنسان هي بالضبط ما يتحدّاه التقارب ما بعد الإنساني. في حين يتمُّ تداول سيناريوهات جديدة متعدّدة حول تحوّل البشر، فمن الأهمّية بمكان أن يتمَّ سماع أصوات المهمّشين. هناك حاجة ماسّة إلى الرؤى والمعرفة النقدية لأولئك الذين يُعدّون أقل من البشر في المناقشات حول ما بعد الإنسانية، سواء من أجل مصلحتهم أو من أجل الصالح العام.
وتركّز بريدوتي- مثل العديد من الباحثين- على النسوية وتحوّلاتها ضمن مفاهيم ما بعد الإنسانية، لأنَّ همّهم الأولى هو في فهم التحوّلات التي طرأت على الإنسان جندرياً، لهذا فنسوية ما بعد الإنسانية لديهم بيئة عامة لطرائق بديلة لتصبح ذاتاً وتتطوّر ضمن القوى المتناقضة للتقارب ما بعد البشري. إنَّها أداة ملاحيّة فعّالة تعمل على تطوير مجموعة أدواتها المفاهيمية والمنهجية الخاصة بها وتطبّقها على التحدّيات المتعدّدة المستويات التي تواجهنا اليوم. فهي تقترح أخلاقيات علائقية إيجابية، مبنيّة على الوجودية السلمية التي ترتكز على الكرم والرعاية في العلاقات بين الأنواع.
في حين ترى الباحثتان بيفرلي كلاك وبرايات ر. كلاك في كتابهما (فلسفة الدين.. مقدمة قصيرة)، أنَّ من أهم خصائص ما بعد الإنسانية هي بحثها عن الموت ومفاهيمه، وكيفية الخلاص منه، وتوضّحان: بالنسبة إلى أنصار ما بعد الإنسانية اليوم، يُمثّل الموت مشكلة يُمكن ويجب حلّها. بسبب اهتمامها بإيجاد طرق لتجاوز قيود الحالة الإنسانية، تحوّلت ما بعد الإنسانية من كونها مجموعة من الأفكار ذات المنافع لعددٍ قليل فقط من المنشقّين على أطراف المجتمع؛ إلى شيء أكثر مركزية: لأسباب ليس أقلّها الدعم المالي الكبير الذي توفّره الدولة. مؤمنة ما يكفي لباحثيها من المليارديرات والشركات في وادي السيليكون. وفي اجتماع حاشد مؤخّراً خارج المقر الرئيس لشركة “غوغل” في كاليفورنيا، تمَّ رصد لافتة كُتِبَ عليها عبارة “غوغل، من فضلك جد حلّاً للموت”: وهي صرخة تقع بالكاد على آذانٍ صُمٍّ، نظراً لتمويل شركة “غوغل” لشركة “كاليكو” وهي شركة تمثّل قسم التكنولوجيا الحيوية التابع لشركة “غوغل” الذي يُجري أبحاثاً للتغلّب على هذه “المشكلة” فحسب.
تُشير رحلة قصيرة إلى أفكار ما بعد الإنسانية إلى المخاوف التي تكمن وراء عدم الرغبة في قبول الموت والمخاطر التي يؤدّي إليها. “أوبري دي غراي” هو عالم كومبيوتر تحوّل إلى عالم في الشيخوخة الحيوية، ويدّعي أنَّ الموت والشيخوخة ليسا حتميين، وأنَّ ذلك ينبع من أنَّ استنساخ الخلايا والعلاج الجيني يفتحان المجال أمام إمكانية عيش البشر إلى الأبد، نظرياً في الأقل. وبطبيعة الحال، فإنَّ مثل هذه النتيجة تعني أنَّه يتعيّن اتخاذ تدبيرات لضمان التوازن بين معدّلات المواليد والوفيات، ويعترف “دي غراي” بأنَّه “يأتي الاختيار بين ما إذا كُنَّا نريد مواصلة حياة الشباب للأشخاص الذين يعيشون بالفعل أو ما إذا كنَّا نريد أن يكون لدينا معدّل دوران للأشخاص الذين يموتون ويتمُّ استبدالهم بالأشخاص الذين يولدون”.
ومن جهتما، تشير الباحثتان كاتي مايلستون وآنيك ماير، في بحثهما عن الثقافة الشعبية، كيف قدمت وسائل الإعلام المختلفة، التحوّلات في مفاهيم الأنوثة والذكورة بسبب تطور مصطلح ما بعد الإنسانية، وتكشفان في كتابهما (الجندر والثقافة الشعبية)، عن أنَّ الذكورة شهدت تغيّرات هائلة منذ الستينيات. فمن ناحية، تمَّ تقريب الذكورة من الأنوثة. على سبيل المثال، يعدُّ المظهر الجسدي الآن مهمّاً للرجال أيضاً، وتتطلّب فكرة الفرد المستدير أن يمتلك الرجال خصائص “أنثوية” تقليدية، مثل الاهتمام أو القدرة على التعبير عن المشاعر. ومن ناحية أخرى، كانت هناك عودة إلى المدرسة القديمة من الذكورة التي يجسّدها بعض الرجال المعاصرين الأقوياء، مثل دونالد ترامب أو فيليب غرين، وهو نوع من الذكورة ينكر كلّ ما هو أنثوي وينكر التغييرات في الذكورة التي تخصُّ “تأنيث” الرجال. وبدلاً من ذلك، فهي مدرسة تؤكّد العودة إلى الذكورة “الطبيعية” التي تتمحوّر حول تشيُّؤِ المرأة والمفهوم الرجولي للحياة الجنسية للذكور كحياة نهمة لا تشبع. ينسجم هذا الاتجاه إلى حدٍّ كبير مع ادعاءات ما بعد النسوية بإعادة المرأة إلى أنوثتها “الطبيعية”.
ولهذا، تبقى ما بعد الإنسانية مرحلة انتقالية في تطور المفاهيم والمصطلحات التي تسعى لمواكبة التطوّرات التكنولوجية التي تسير بشكل متسارع ولا يمكن التنبّؤ بها، ومع دخولنا زمن الذكاء الاصطناعي، فإنَّ من الصعب الوقوف على ما سيحدث في الغد... وربّما سيكون مصطلح ما بعد الإنسانية قديماً بعد شهور قليلة، فالمعنى الإنساني بحدِّ ذاته أصبح رجراجاً، لاسيّما بعد تفكّك مفاهيم كانت حديثة إلى وقت قريب جداً، غير أنَّ الأحدث سيحيل تلك المفاهيم إلى كلاسيكية بناءً على هذا التطوّر، مثل الجندر والنسوية وغيرهما الكثير.