الاستشراقُ ودراساتُ الشرقِ الأوسط ما قبل الحداثة

ثقافة 2024/08/28
...

وولتر د. وارد

ترجمة: فارس عزيز المدرس

  بصوتٍ مُدوٍّ صرخ الرجلُ الوسيمُ الأبيض مفتولُ العضلات؛ وهو يركلُ رجَلاً أسمر يرتدي ثياباً شرقية في حفرة: (هذه أسبرطه!). في هذا المشهد مِن فيلم 300، جرى تصويرُ الفرس ورعاياهم كمخلوقاتٍ غريبة ووحشية.
 وفي (فيلم سيد الخواتم) يركب رجالٌ أشرارٌ يُطلق عليهم هاراديم فيلةً عِملاقة، ويرتدون أزياء تشبه أزياء العرب، ولا وجود للهاراديم في الفيلم إلا ليقتلَهم البيضُ. ويشيرُ كلا الفيلمين إلى أنَّ المحاربين البيض يقاتلون ضِد آخر شرير.

 وكان أولُ ما خطر في ذهني بعد مشاهدة فيلم 300 “ أنَّ إدوارد سعيد لا بدَّ أنه يتقلَّب الآن في قبرهِ “ فقد أوضح كِتابُ الاستشراق لـ سعيد  التصوراتِ التي أدَّتْ إلى تصنيعِ صورةٍ للشرق بوصفه الآخر الغريب، ورأى أنَّ صورةَ الشرقِ الأوسط خلقها كُتَّاب وفنانون غربيون في القرن التاسع عشر؛ لتبرير الإمبريالية، سواءٌ بوعيٍ منهم؛ أو بغير وعي، ولا تزال الأوصافُ التي قدَّمها الأوروبيون عن الشرق حيَّةً حتى اليوم، وتشكِّل الطريقةَ التي يفهم بها الشخصُ العادي (لاسيما الأميركي) الشرقَ الأوسط. ويمكننا رصدُ صوراً أكثر عنفاً في أعمالِ مؤلفين معاصرين، مثل كتاب “صراع الحضارات” لهنتنغتون الذي استُخدِمَ لدعم النشاط الإمبريالي الأميركي الحديث في الشرق الأوسط.

الاستشراق
قبل الحربِ العالمية الثانية كانت دراسةُ الشرق الأوسط في أيدي العلماء الغربيين، أو ما يُسَّمَون “المستشرقون”، وقد زعم سعيدٌ أنَّ هؤلاء أسقطوا الغرابةَ والضعفَ على “الشرق” (لاسيما العرب المسلمين)؛ لتبرير المساعيَ الاستعمارية في ذروةِ الإمبريالية؛ خلال القرن التاسع عشر. ويعتقد أنَّ خطاب الاستشراق رسم صورةً نمطيةً لـشرقٍ خيالي، وهذه الصورةُ لم تعتمِد صفاتٍ فعليةً موجودةً في الشرق، بمعنى “صورةٌ حلتْ محِل الشرق الحقيقي”.
إنَّ قراءةً واحدةً لكتابِ هيرودوت “تاريخ الحروب الفارسية” ثم مشاهدة فيلم 300 تكفي لإدراك أنَّ الخطابَ والتصويرَ الذي استخدمه الإغريقُ القدماء للشرقيين كانا عاملين مغذِّيين في تشكيل الأفكار الحديثة حول الشرق الأوسط، ومع ذلك يبدو مِن الصعبِ التوفيقُ بين وجهاتِ النظر اليونانية الكلاسيكية (ولاحقاً الرومانية والمسيحية المبكرة) حول “الشرق”، وتبريرات القرن التاسع عشر للإمبريالية؛ بسبب السياقات التاريخية المختلفة. ومِن المشكوك فيه الربطُ بين الأفكار اليونانية عن الآخر؛ والعصر الحديث مباشرةً؛ دون معرفةِ التغيرات التي حدثت على مدى ألفي عام مِن الخطاب؛ لاسيما مع تحوّل المسيحية والإسلام، ثم عصر التنوير إلى محركاتٍ رئيسية للهويِّةِ والفكر.

الغرب في مواجهة الشرق
مع انخراطِ أميركا ودولِ شمال الأطلسي في حروبٍ في الشرق الأوسط منذ الحادي عشر من أيلول مارست مقالةُ صمويل هنتنغتون التي كانت بعنوان “صراع الحضارات؟” تأثيراً هائلاً في المناقشات الجيوسياسية، إذ زعم أنَّ الصراعاتِ المستقبليةِ ستكون بين حضارات مختلفة، حدَّدها هو على أساسِ الثقافة والدين بشكلٍ خاص. والحالُ لم تقلْ أطروحة هنتنغتون أنَّ كلَّ الحضاراتِ ستقاتل ضدَ بعضها؛ بل الصراعُ سيكون بين الحضارةِ الإسلامية والحضارات الأخرى، مع توجيْهِ العدوانِ الإسلامي بشكلٍ خاص نحو الحضارة الغربية!.
  لم تحظَ هذه الأطروحة بقبولٍ كبيرٍ من لدن الأكاديميين، ولكنها ظلَّت مؤثرةً في الدوائر غير الأكاديمية، لأنَّ هنتنغتون صاغ اسماً جذَّاباً لأفكارٍ كانت منتشرةً على نطاقٍ واسع. وهنا ينبغي أنْ نشيرَ إلى أنَّ مصطلح “صراع الحضارات” نشأ مِن مقالٍ لـ برنارد لويس بعنوانِ جذور الغضب الإسلامي؛ عدّ فيه “إنَّ التنافسَ القديم ضد تراثنا اليهودي المسيحي وحاضرنا العلماني، والتوسع العالمي لكليهما هو ما سبَّبَ الغضب الإسلامي ضد الغرب”. وتبنَّى العديدُ من الجنرالات وخبراءِ السياسة نموذجَ هنتنغتون لـ “صراع الحضارات”؛ وعلى سبيلِ المثالِ استوعب رالف بيترز - صحيفة نيويورك بوست - أطروحةَ هنتنغتون مع أنَّه انتقدها لتجاهلِها “خطوطَ الصدع المروِّعة داخل الحضاراتِ أيضاً. ويرى آخرون أنَّ هذه الأداةَ مفيدةٌ في ازدراء العالم الإسلامي؛ دون الاضطرار إلى استخدام ما يعدُّه أغلبُ الناس لغةً عنصرية. وهم يزعمون رؤيةً عالميةً تعدُّ أميركا وقيَمها مِعياريةً، في حين تعدُّ قيمَ الآخرين بدائيةً أو همجية.
قاوم بعض الأكاديميين الفهم ثنائي القطبية للعالم، وأشاروا إلى تعقيدِ عمليةِ خلقِ الصورة التي طمستْها نظرياتُ الاستشراق أو “الصراع”؛ مَن ذلك كتابُ “أسطورة القارات”، التي يصف فيه كلٌّ مِن مارتن لويس وكارين ويگن كيف جرى اختراعُ العمليات الفكرية الملتوية التي أدَّت إلى التمييز بين “الشرق” و”الغرب”، باستخدامِ كلماتٍ متخيلة كانت حدودُها الجغرافية تتغير باستمرار مع مصلحةِ الغرب.
زعم ريتشارد بوليت أنَّ الغربَ لم يكن ليوجدَ بالشكلِ الذي عليه الآن بدون العلاقةِ المعقدةِ مع التاريخ الإسلامي والاقتباسات الفكرية من العلماء المسلمين، ويردِّد هنا صدى تصريح هنري بيرين الشهير بأنَّ شارلمان لم يكن ليوجد بدون محمد. ومع ذلك يعتقد بوليت أنَّ أهميةَ الإسلام في تشكيل أوروبا تم مَحوها عمْداً لضمانِ النظر إلى الإسلام بوصفه “الآخر” الشرير الذي لم يسهمْ في الحضارة الغربية، ويمكن رؤيةُ خطِّ تفكيرٍ مماثل في دراسة ثقافة التروبادور، والتي تشكَّلت أساساً مِن خلال التأثيرات الإسلامية غير المُعترف بها في إسبانيا وجنوب فرنسا.
التحضر الشرقي في العصر اليوناني الروماني
في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، هزمت المملكةُ المقدونية بقيادةِ الإسكندر الإمبراطوريةَ الفارسية، وعلى الرغم من أنَّ إمبراطورية الإسكندر تفككت بموته؛ إلا أنَّ مماليك المقدون استمروا في حكمِ مصر والشرق الأوسط وبلاد فارس وأفغانستان، وأسسوا مدناً جديدة ( سُميت على اسم حكامهم المقدونيين أو البر الرئيسي اليوناني). وتقاتلت مماليك هذه الدول فيما بينها؛ حتى توغلت الدولةُ الرومانية في شرق البحر المتوسط؛ فغزَت المقاطعة التي أطلقوا عليها اسم سوريا في عام 643 قبل الميلاد، وأضافت ببطءٍ بقيةَ الشرق الأدنى وغرب بلاد ما بين النهرين عام 106 ق.م؛ وبذلك وحَّد الرومانُ البحرَ المتوسط والشرق الأدنى لأول مرةٍ في التاريخ.
كانت المدَّة من وفاة الإسكندر عام 323 ق.م؛ إلى عام 300م ذروةَ التوسع الحضري في الشرق الأدنى، ويُعتقد أنَّ المستوطنات التي أسسها اليونانيون وتطوَّرتْ في عهد الرومان كانت متفوِّقةً على أشكال التوسع الحضري السابقة واللاحقة. وقد ركزت الدراسات التي تناولت هذه المساحات الحضرية على الطابع اليوناني الروماني للمباني والمواد المكتوبة التي أُنشِئت فيها في مقابل التأثيرات الأصلية.
 تأثرتْ الأبحاثُ الجاريةُ في الوقتِ الحاضر بشكلٍ عميقٍ بكتاب فيرجوس ميلارز “الشرق الأدنى الروماني” الذي يزعم فيه أنَّ جميعَ المدن في الشرق الأدنى كانت منظمةً على النموذج اليوناني الذي صدَّره الإغريقُ ثم الرومان إلى سوريا، وأنَّ اللغةَ اليونانية كانت اللغة الأساسية للتعبير الثقافي. وفي رأيه كانت الثقافةُ اليونانيةُ الرومانية مهيمنة، مع تهميشِ الأدلةِ على الثقافات الأصلية في المناطق الطرفية من الاستيطان، ولقد أوحى له هذا بأن “اللغة اليونانية والبُنى الاجتماعية والدينية اليونانية هيمنت على الحياةِ الثقافية في الشرق الأدنى الروماني.
أمَّا واريك پول فتوصلَ إلى استنتاجٍ معاكسٍ يرى أنَّ الثقافةَ اليونانية كانت “قشرة” رقيقة تخفي مجتمعاً سامياً مهيمناً في الشرق الأدنى. والدليل الذي قدَّمه على هذا التأكيدِ البقايا الأثرية للمدن والريف والمعالم الفردية. وتتمثَّل إحدى حججه في أنَّ اليونانيين لم يؤسسوا مدناً جديدةً في الشرق الأدنى، وأنهم استخدموا ادعاءات الأساس المدني وسيلةً للاستيلاء على مجتمعات قائمةٍ سابقاً. ويرى أنَّ عودةَ أغلب هذه المجتمعات إلى استخدام الاسم السامي لمدنِها بعد الفتح الإسلامي يثبت أنَّ هذه المجتمعاتِ كانت ساميَّة في الغالب وليست يونانية.
ويجادل عملان آخران هما كتاب “سوريا الرومانية والشرق الأدنى” لبوتشر وكتاب “الشرق الأوسط تحت روما” لسارتر؛ بوجود أرضية وسطى تجمع بين الطرفين المتناقضين لميلار وپول. ويزعم بوتشر أنّ التعليمَ والثقافةَ اليونانية سمحتا للفرد بالوصول إلى القوة الإمبراطورية والثقافية، وأنَّ الأفراد الذين اختاروا تبنِّي الثقافة الهيلينية حصلوا على مزايا كبيرة، مثل الوصول إلى سلطة الإمبراطور، والاستقلال المحلي، والمناصب، ويزعم أنَّ هاتين الثقافتين تفاعلتا لتكوين ثقافة ثالثة هجين مِن الثقافتين الأخريين؛ اليونانية والشرقية.
  وباختصار فإنَّ تعريفَ الشرقِ الأدنى بأنه إمَّا يوناني أو روماني، أو أصلي، أو مزيج منهما يبسط التشابك المعقد لهوياتٍ الناس، وعلى سبيل المثال يزعم أندرادي على أساس كتاب لوسيان “عن الإلهة السورية”، أنَّ السوريين استهلكوا الثقافة اليونانية واستخدموها لأغراضهم الخاصة، لذلك ينبغي النظرُ إليهم بوصفهم استغلوا الثقافة اليونانية الرومانية للتقدمِ داخل النظام اليوناني الروماني!.
وعلى الدوام تطلُّ الصورة النمطية التي خلقها الاستشراقُ برأسِها في هذه المناقشات؛ ولكنَّ تأثيرَ ثنائية “الشرق والغرب” يبدو أكثر بروزاً من خلال عزو انحدار المدن إلى الطابع الأصلي للسكان، يبدو أنَّ العلماءَ المعاصرين قد تبنوا موقفاً سلبياً تجاه سكان الشرق الأدنى. وقد رأى أغلبُهم أنَّ هذه المخططات الحضرية أمثلةٌ على المدن “اليونانية” في الشرق، ووصفوا المدن غير المتعامدة بأنها “إسلامية” أو شرقية وليس يونانية. ومع ذلك عندما أسَّس المسلمون مدنهم الأولى مثل العقبة أو البصرة، استخدموا التصميم المتعامد. وكما أشار پول، كانت مثل هذه الخيارات التصميمية متاحةً في الشرق الأدنى حتى قبل وصول اليونانيين.
وبمعنى آخر فإنَّ الاهتمام بالمدن الكلاسيكية في الشرق الأدنى يعطي ضمناً شرعيةً لفعل الاستعمار، فإذا كانت الآثار اليونانية الرومانية هي الوحيدة التي تستحق الاهتمام فمِن الممكن الزعمُ أنَّ مثل هذه الأفكار تدعم الأنشطة العسكرية الحالية في الشرق الأدنى أيضاً. وفي نهاية المطاف لم يكن من الممكن أنْ تنشأ المستوطنات اليونانية الرومانية لولا الغزو العسكري للإمبراطورية الفارسية على يد الإسكندر الأكبر. ومع أنَّ قِلةِ من علماء الآثار يرغبون في الاعتراف بذلك فإنَّ التركيز على الآثار اليونانية الرومانية “الكلاسيكية” في الشرق الأدنى يمنح الاستعمار امتيازاً على الشعوب الأصلية في الشرق.

الفتوحات الإسلامية المبكرة
المثال الثاني الذي يستخدمه البحث هو الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي، حيث فقد الرومان السيطرة على الشرق الأدنى ومصر وحلَّ محلها حكمُ الإسلام. وقد أثرت الفتوحات الإسلامية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية. وفي عام 630 كان الإمبراطور هرقل والإمبراطورية المسيحية يحتفلان بعودة “الصليب الحقيقي” إلى القدس بعد انتصارهما في صراع دام عشرين عاماً مع الفرس. وبعد هزيمةِ الرومان في معركة اليرموك عام 636، كان مِن المؤكد أنَّ مقاومةَ الغزو الإسلامي ستفشل، ولم تكن هناك فرصة لاستعادة سوريا وفلسطين من لدن السلطات الرومانية. وسرعان ما تراجع خط الدفاع الروماني إلى جبال طرسوس، وسقطت مصر أيضاً. وألحقت الخسارة ُالدائمة لأقاليم الشرق الأدنى ومصر أضراراً بالغة بهيبة واقتصاد الإمبراطورية الرومانية الباقية، وأدَّت بسرعةٍ إلى تحول عميق للدولة البيزنطية.
  نظر المسيحيون “الغربيون” عبر التاريخ إلى الفتوحاتِ الإسلامية بطريقة مُهينة. وكان سعيد يعتقد أنَّ الفتوحات الإسلامية والتوسع العسكري اللاحق أنتجت نوعاً من الرعب في الثقافة “الغربية” التي كان لابدَّ مِن السيطرة عليها من خلال التمثيل. وكما أوضح تولان في كتابِه “المسلمون”، فقد صاغ المسيحيون في العصور الوسطى صورةً للمسلمين تمثل تهديداً للمصالح المسيحية. وفي حين حاول العلماءُ المعاصرون تجُّنب مثل هذه التصريحات فإن كُتَّاباً شعبيين آخرين مثل المؤرخ العسكري رالف بيترز ما زالوا ينتجون منشورات شبيهة بالمنشورات الاستشراقية. ويكشف عنوان كتاب بيترز “حرب لا نهاية لها: الإسلام في الشرق الأوسط ضد الحضارة الغربية” عن أطروحته هذه بصراحة.
أحدُ السبل التي يمكن من خلالها التعامل مع الافتراضات التي بنيت عليها الفتوحات الإسلامية هو البحث عن الدافع؛ والمسيحيون حتى اليوم يتساءلون عن السبب وراء تحريض الإسلام على غزو الشرق الأدنى وكأن الإسلام كان السبب الرئيسي أو الوحيد وراء الغزو، في حين تهتمُّ قلةٌ نادرة من الناس بإيجاد مبرِّر لغزو الإسكندر الأكبر الشرق الأدنى. وتكشف مثل هذه المعايير المزدوجة عن تحيّز ضِمني تجاه ما يسمى بالحضارة “الغربية”.
من المدهش أنَّ المسيحيين غير الأرثوذكس واليهود في الشرق الأدنى أشادوا في البداية بالفاتحين المسلمين بوصفهم أكثر تسامحاً من الإمبراطورية البيزنطية المسيحية المعاصرة. وفي حين واجه المسيحيون الأوروبيون عموماً المشركين لديهم وسعوا إلى استئصال دياناتهم. أمَّا المسلمون (قبل عام 1000) فقد واجهوا الذين كانت دياناتهم تتميز بخصائص توحيديِّة بالإقناع وليس بالعنف. وتذكر النصوص العربية والسريانية تعليمات أبو بكر للجيوش العربية الغازية التي ضمنت حق الرهبان في العبادة بحرية، وسلامة النساء والأطفال وكبار السن، وحمَت الرخاء الاقتصادي للمناطق المحتلة. وبالتالي سُمح لأولئك الذين خضعوا طواعية لدفع الجزية بالعيش دون مضايقة، بينما تعرَّض أولئك الذين رفضوا للهجوم. وعندما اضطر المسلمون إلى الانسحاب مِن دمشق قبل معركة اليرموك أعادوا الجزيةَ لأهلها؛ لأنهم لم يتمكنوا من الدفاع عن المدينة!.
لقد بذلت جهودٌ كثيرةٌ بما في ذلك كتابي (سراب المسلمين) في فهم كيفية تفاعل المسيحيين الأوائل مع الفتوحات الإسلامية، ووجدَت أنَّ الرهبان في شبه جزيرة سيناء كانوا رواداً في استخدام كلمة “Saracen” لوصف المسلمين، وهي الكلمة التي كانت تُطبق سابقاً على الجماعات البدوية وتحتوي على صورة مفادها أنَّ المسلمين كانوا أشراراً. لم تكن لهذه الصورة علاقة بالمعتقدات أو الممارسات الإسلامية الفعلية، لكنها سمحت للمجتمعات الرهبانية في سيناء والشرق الأدنى بإلقاء نفسها في دور المضطهدين الذين سعوا إلى طريق الاستشهاد، باختيار مثل هذا المصطلح المحمَّل بالمعاني، خلق المسيحيون الأوائل ثنائية المعارضة التي تنعكس في الاستشراق وأطروحة صراع الحضارات.
 لاحظ فاسونيا “ أنَّ العلماء غير قادرين أو غير مهتمين باستكشاف التواطؤ بين الكلاسيكيات والإمبراطورية، على الرغم من الأدلة التي لا تقبل الجدل على مثل هذا التواطؤ”. نحن إذن بحاجةٍ إلى فهم كيف تؤثر أطرُنا المرجعية في دراساتنا حول المجتمع العالمي ما قبل الحداثة، لاسيما في عصر توجد فيه عدةُ مجموعات، مسيحية وإسلامية، تريد توسيع الشقوق بين الحضارة الغربية والإسلام. على سبيل المثال، يريد السلفيون العودة إلى “الأيام الخوالي” للقرن السابع، على الرغم من أنَّ العالم كما يتصوَّرونه لم يكن موجوداً أبداً.
لكي نتصرف كعلماء نحتاج إلى فحص العدسات التي نشارك من خلالِها في الدراسات العلمية، لاسيما في الشرق الأوسط. وهذه الورقة ليست سوى أسهام صغير في الدراسات العلمية، لكن تحيزات بعضُ العلماء تجاه الثقافة والتاريخ والمجتمع الإسلامي أثَّرت في تفسيرهم للتحضّر في الشرق الأدنى وفهمهم للفتوحات الإسلامية.
 إنَّ المستشرقين الذين تناولهم سعيد لم يخوضوا مثل هذه المناقشةِ قط؛ لأنَّهم تبنُّوا الاعتقادَ بأنَّ المجتمع الأوروبي متفوقٌ بلا أدنى شك، وبهذا ساعدوا في خلق الظروف التي برَّرت التوسعَ الأوروبي في الشرق الأوسط، ويتعيَّن علينا ألا نكرر هذا الخطأ.