فيلم آل فيبلمان

ثقافة 2024/08/28
...

وداد سلوم


كيف يمكن للأهل أن يسهموا في رسم مستقبل أبنائهم وإذكاء نار الطموح أمامهم كشعلة تضيء الطريق؟ كيف يمكنهم جعل المستحيل ممكناً ومساعدة الأبناء في رسم أحلامهم؟ ومن ثم تحقيقها؟
كل هذه الأسئلة تدور في ذهن المشاهد وهو يحضر فيلم عائلة فيبلمان (إنتاج 2022) الذي يبدأ بمشهد أب وأم يشرحان لطفلهما الخائف من دخول السينما، لرؤية العرض السينمائي الكبير عام 1952 لفيلم شهير، يتم عرضه في إحدى الصالات في نيوجرسي، وبينما الطفل يعبّر عن مخاوفه من ارتياد المكان ورؤية شيء جديد بالنسبة إليه، يشجّعه الأبوان للمغامرة المفرحة برؤية الفيلم ويشرح له والده علمياً آلية تصوير وعرض الفيلم السينمائي دون أن يدرك أنه يفتح في عقله عالماً كبيراً  وجديداً سيحدّد مستقبله كله.

فالفيلم (آل فيبلمان) يحكي عن طفولة المخرج ستيفن سبيلبيرغ صاحب فيلم إي تي الشهير (من الخيال العلمي) وجزء من حياته لمدة نحو عشر سنين من ستينيات القرن الماضي (الطفولة والمراهقة) وكيف تعرّف إلى السينما وكيف وُلد لديه الحلم الذي رسم مستقبله.
لأنَّ الطفل الصغير بعد أن شاهد الفيلم مع أهله، انقلبت حياته، فقد أخذت السينما لبّه، وعاد شارداً إلى المنزل، يفكّر بعالم السينما المدهش وليس بالحادث المؤلم في الفيلم والذي كان الأبوان يخافان وقعه على طفلهما الصغير. وإرضاءً له يهديه الوالد لعبة قطار متحرك في العيد، لكن كل هم الصغير أصبح أن يفعل بها حادثاً كالذي رآه في السينما، ودرءاً لتخريب اللعبة تشجعه والدته على صنع فيلم قصير يصور فيه حادثاً مصطنعاً بلعبة القطار، ليستطيع مشاهدته أكثر من مرة دون تكرار الحادث في الواقع، وكان هذا أول فيلم له في حياته. لقد بدأ الشغف الذي لن ينتهي.
يتابع سامي تصوير أفلامه في كل وقت فيصرف مثلاً كل بكرات محارم التواليت في البيت، إذ يلفّها على أخواته الصغيرات في محاولة صنع مومياوات يقوم بتصويرها. كان الأب مختصاً ببحوث الرياضيات والحواسيب (قام بدوره بول دانو) والأم عازفة البيانو (قامت بدورها ميشيل ويليام) ولقد شجّعا ابنهما واستوعبا محاولاته يساندهما صديق العائلة العم بوني بهدف تشغيل خيال الطفل وإكسابه المهارات، لكنَّ هذا التشجيع لم يكن يتعدى ممارسة الهواية وشغل الوقت بجانب الدراسة، بينما الطفل الذي كبر بات يرى أنَّ هذا شيء أساسي في حياته، بل حياته كلها.
صوّر فيلماً مع رفاق الكشافة والمدرسة، عن الحرب العالمية الثانية بأدواته البسيطة ومساعدة أصدقائه الذين كانوا يصنعون الديكور بشكل بدائي، فيثيرون الغبار ويركضون باتجاه تنفيذ تعليماته والدم الذي يسيل من بالونات مليئة بسائل أحمر، نال الفيلم استحسان المشاهدين حين عُرض في المدرسة.
 وفي رحلة التخييم العائلية ومع العم بوني. قام سامي بتوثيق اللحظات، إذ كانت الأسرة سعيدة ومتألقة وممتلئة بالبهجة والحب، إلى أن توفيت جدته لأمه، فسيطر الحزن على الأم.
 غيّرت زيارة الخال للعائلة بعد ذلك مزاج سامي الشاب، كان هذا اللقاء الأول به، إذ لم يكن مرحّباً بالخال في العائلة وهو الذي كان فناناً عمل بالسيرك لفترة.
شرح الخال للفتى سامي كيف عليه أن يختار طريقه مهما سمع، وأنَّ المحيط يضع الإنسان بين خيارين: الفن أو العائلة وعليه أن يمتلك شجاعة الاختيار وإلا لن يكون جديراً بالفن.
 لكنَّ والده حاول أن يستخدم حبه للسينما من أجل العائلة، فطلب منه صنع فيلم مما صوره في رحلة التخييم ليعيد البهجة إلى أمه بعد وفاة جدته، يذعن سامي لطلب والده ليكتشف في السينما ما أخفاه الواقع وتكشف له عن الصورة الحقيقية التي عجز عن إدراكها، إذ يكتشف خيانة أمه لوالده طوال الوقت مع العم بوني فيخفي اللقطات بقصها من الفيلم ويقدم للأم فيلماً يبهجها ويحمي العائلة. لكنَّ شرخاً كان قد حدث بينه وبين أمه وعمه. هكذا يشاركنا المخرج تفاصيل حياته المحرجة بلا تردد، وسندرك كيف يوظف ذلك في المقولة التي صنعت مستقبله وهي اختيار الحياة التي نحب.
ويصوّر الصراع الذي عاشه تجاه أمه ووالده والعائلة مما انعكس على علاقته بهم، وحين تزداد علاقته بأمه سوءاً يصارحها ويعرض عليها الفيلم الآخر الذي أخفاه، حيث تظهر علاقتها مع العم بوني. في هذا الوقت يحظى الأب بفرصة عمل بحثية في ولاية كاليفورنيا فتغادر العائلة معه للابتعاد عما قد يهدمها.
لكنَّ الأم لا تستطيع نسيان حبها حتى مع القرد الذي اشترته لتعيد الضحكة إلى حياتها، فتقرر مع الأب الطلاق. فالحياة حيث لا نحب ومن دون من نحب لا معنى لها، ولعلّ هذا الدرس الكبير الذي يتعلمه الكبار متأخرين. ليتوقفوا عن دفع الأولاد باتجاه الخيارات التي يرونها مناسبة في المستقبل، بينما يتغافلون عن الشغف والحب الذي يمنح الإبداع.
يدرك ذلك والد سامي بعد تجربته المريرة مع زوجته ويرى أنَّ الإنسان عليه أن يتبع شغفه، فحين يصارحه سامي بالتعب من الدراسة وعدم القدرة على التركيز والمتابعة يقول له الأب افعل ما تحب يا سامي واذهب إلى ما تريد.
يختار سامي السينما ويذهب لأول فرصة تتيحها شركة إنتاج وبعد المقابلة فيها، يتمكن من اللقاء مع المخرج العالمي جون فورد الذي يمنحه الخطوط الأساسية ليعرف كيف يصنع فيلماً مثيراً ومشوّقاً ويحظى باهتمام الجمهور، إذ يقلب لديه المقاييس في رؤية الصورة ويقوم بتوجيهه إلى طريقة نظر صحيحة فيها.
لا يمكن أن ننسى تلك الأزمات التي عاناها الشاب في المدرسة والتنمّر عليه بسبب ديانته واختلاف بنيته عن زملائه والتي انتهت حين صنع فيلماً عن نشاط الطلاب على الشاطئ ومعاناته في تفهم والدته وسعيها للحب بعيداً عن العائلة، لنرى أنَّ ارتباط معاناته بالأفلام ما هو إلّا دليل على ارتباط حياته المؤثرة والمبكرة بالسينما.
حاز الفيلم جائزة أفضل فيلم دراما في الغولدن غروب ونال ستيفن سبيلبيرغ جائزة أفضل مخرج عنه أيضاً وهو الذي نال جائزتي أوسكار سابقاً عن فيلميه قائمة شندلر وإنقاذ الجندي رايان.