التاريخ والمؤرخ والوثيقة التاريخيَّة: تفاعلٌ لا تفاضل

آراء 2024/08/28
...

ثامر عباس

في اللحظات السياسيَّة الحرجة والمنعطفات التاريخية الحادة، ينهمك الكثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع ومن يقع ضمن خانتهم في المجالات الاجتماعية والإنسانية، في العديد من النقاشات والسجالات والجدالات التي تتمحور حول القضايا والمسائل المتعلقة بأولويات الأدوار وأفضليات الوظائف للعوامل الذاتية والموضوعية المسؤولة عن سيرورات الحراك الاجتماعي وديناميات التطور الحضاري. ومن بين كل القضايا الكبرى والمسائل الملحة التي يكون لدورها وأهميتها القول الفصل في كشف الملابسات المضمرة وتعرية الإشكاليات المحتجبة، تتصدر مباحث (التاريخ) وما يرتبط به ويتمخض عنه الأولوية القصوى ضمن طائفة واسعة ومتنوعة من الأساسيات والضروريات. ذلك لأن فهم واستيعاب أي حدث سياسي أو أية واقعة اجتماعية، لا بد من الرجوع مسبقا الى البدايات والخلفيات والمرجعيات، التي أدت إلى وقوع الأول وحصول
الثانية.
وبالرغم من حقيقة كون التاريخ – قديما وحديثا- يتصدر الكثير من العلوم والمعارف في تفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية، لجهة إلزام الباحثين بضرورة الرجوع إلى الماضي واستقراء ما استجد في مضاميره من علاقات اجتماعية، وتفاعلات حضارية، وصراعات سياسية، وانزياحات قيمية. لكي يصار لاحقا إلى موضوعة الأحداث والوقائع ذات الطابع الإشكالي ضمن السياقات، التي ساهمت في تأطير طبيعتها وبلورة خصائصها من جهة، ومن ثم قذفها في أتون من التقاطعات والصراعات أو التفاعلات والتخادمات من جهة ثانية، بحيث تكون حصائل التحليل والتعليل والتأويل أقرب إلى الواقع المعاش منها إلى الافتراض المتخيل. نقول بالرغم من ذلك، إلاّ أن التباين في الرؤى والاختلاف في التصورات حيال دور التاريخ ومكانته في تفسير الحوادث واستخلاص النتائج، قلما حظي باتفاق آراء المؤرخين وإجماع مواقف الباحثين.
وعلى خلفية هذا التشظي في الرؤى والتذرر في التصورات لماهية التاريخ، يمكننا القول إن جلّ مباحث هذا العلم الواسع في اهتماماته والمتشعب في مقارباته، جرى استقطبتها - على نحو لا يخلو من تعسف واختزال – بين اتجاهين شائعين من العوامل التي تتراوح ما بين الذاتية والموضوعية. ففيما يتعلق بالعامل الأول، فقد اعتبرت شخصية (المؤرخ) المنوط به اكتناه ماهية (التاريخ) واستنباط فلسفة حراكه وتطوره، بالاعتماد على مستوى تحصيله الأكاديمي، ونمط تكوينه السيكولوجي، وطبيعة انتماؤه الأيديولوجي، بمثابة قطب الرحى الذي تنبثق عنه وتدور حوله سرديات التاريخ الكبرى، فضلا عن كرونولوجيا تسلسل محطاته وتعدد انعطافاته. بحيث يصعب على الباحث فهم ديناميات التاريخ واستيعاب سيروراته، كما يستحيل عليه تتبع تحولاته وانزياحاته، دون الاحتكام إلى ما يرويه (المؤرخ) من أحداث وما يستنبطه من وقائع وما يستلهمه من دوافع. أما ما يتصل بالعامل الثاني، فقد تركز الاهتمام على دور (الوثيقة) التاريخية وما تنطوي عليه من معلومات وبيانات ومؤشرات وإحصائيات، ليس فقط في الكشف عما يعنيه علم التاريخ بالنسبة لدارس أحداثه ومتقصي آثاره فحسب، وإنما في استبعاد كل ما ليس له صلة بالأدلة (الوثائقية) الملموسة، التي من شأنها تأكيد صحة الحدث واثبات صدقية
الواقعة.
للحدّ الذي دفع برائدي المدرسة المنهجية الفرنسية (لانغلوا وسينوبوس) إلى التصريح بان (( التاريخ يصنع من وثائق، فحيث لا وثائق لا تاريخ ))! .
وكما هو ملاحظ، فقد نحا البعض من المؤرخين منحا»لا ينسجم وماهية الفعل (التاريخي)، من حيث كونه يقوم على مجموعة واسعة ومتنوعة ومتعاضدة من العوامل الذاتية والموضوعية، التي تجعل من ذلك الفعل ليس فقط واقعا» معاشا يمور بصراع الارادات البشرية وتقاطع مصالحها وتصالب تطلعاتها فحسب، وإنما يشي بمسارات واتجاهات التطور أو / و التقهقر التي يتوقع للمجتمع المعني الانخراط في أتونها والاندراج في سيرورتها. ولذلك ينبغي على كل من تستهويه الكتابة التاريخية الإقرار بان الحدث التاريخي من العمق والشمول والاتساع والتشابك، بحيث لا يمكن لشخصية (المؤرخ) وحدها صناعته مهما تحصلت عليه من خصائص ومزايا. كذلك الأمر بالنسبة لـ(لوثيقة)، فهي بالرغم من قيمتها المصدرية وأهميتها التوثيقية، لا يمكنها لوحدها أن تسدّ مسدّ العوامل والعناصر الأخرى، التي يبقى التاريخ من دونها مجرد تكهنات وافتراضات لا يسندها واقع ولا يدعمها دليل. ذلك لأن الأول (المؤرخ) سيبقى عرضة لتحكم الأهواء والانفعالات والدوافع، مثلما ان الثانية (الوثيقة) ستبقى صنيعة للسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي أوجبت صياغتها الحكومات على هذا النحو دون ذاك، وألزمت تحريرها الزعامات على هذا دون ذاك. وكما أشار المؤرخ المصري الراحل (قاسم عبده قاسم) إلى أن «كل ما نظن انه مكتوب هو نص منقول عن نص شفاهٍ في حقيقة الأمر»، مثلما علق المؤرخ الغربي (ناتالي دافيز) انه «لا يمكن على الدوام أخذ الوثائق بقيمتها الظاهرية».
وبمجمل القول يمكننا الجزم؛ إن التاريخ هو بالأساس عبارة عن مجموعة من (البشر) يتفاعلون في (مكان) ما، ويتحركون في (زمان) ما، ويعيشون في (بلدان) ما. الأمر الذي يجعل من ماهيته وكينونته تنطوي على خاصية (التفاعل) الجدلي و(التكامل) البنيوي بين عناصره ومكوناته، وليس وفقا لخاصية (التفاضل) المعياري و(التراتب) الموقعي لتلك العناصر والمكونات.