النسويَّة البيئيَّة

منصة 2024/08/29
...

 ميادة سفر

تتبنى فلسفة النسوية البيئية الفكرة القائلة بوجود ارتباط بين السيطرة على النساء وغيرهم من المهمشين في العالم، وبين السيطرة على الطبيعة، وقد رأت الفيلسوفة الأميركية كارين ج وارن (1947 - 2020) أنّ أية حركة نسوية لا تعترف بهذا الارتباط هي حركة نسوية وفلسفة بيئية منقوصة، وانطلاقاً من ثنائيات الإنسان والحيوان، الذكر والأنثى، وغيرها من ثنائيات تقوم على تفوق وأفضلية طرف على آخر افترضت كارين وارين أن تلك القيم تشكل نواة السيطرة لتتحول مع الوقت مبرراً للتبعية والهيمنة، لذلك يغدو طبيعياً في مجتمع تسيطر عليه العقلية الذكورية أن تخضع النساء والطبيعة شرعاً للرجل والنظام الذكوري.
ولأن الكثير من الكوارث الطبيعية والبيئية والتبدل المناخي باتت تهدد كوكب الأرض بالدمار المحتوم بكل ما عليه من كائنات، فإن الحديث اليوم عن فلسفة نسوية بيئية يصبح أمراً ملحاً وضرورياً على اعتبار أنّ النساء والأطفال هم غالباً ما يكونون الأكثر عرضة للآثار السيئة للتدهور البيئي والآثار المترتبة على التبدل المناخي الذي أصبح حديث الساعة في أغلب دول العالم، من التلوث إلى شح المواد الغذائية وتلوث المياه وانتشار الأوبئة، فضلاً عن بذل جهود مضاعفة لتأمين مورد الرزق والحفاظ عليه، ولأننا في هذه البقعة من العالم لسنا بمأمن من تلك الأخطار، بل إننا في قلب الإعصار مع كل ما تتعرض له منطقتنا من حروب وقتل وتشريد وتجويع، فضلاً عن الكوارث البيئية التي طالت مساحات واسعة من الأرض كالحرائق والفيضانات والزلازل، مع كل ذلك تبدو الحركة النسوية البيئية في مجتمعاتنا خجولة جداً إن لم تكن معدومة، ربما لأن نساءنا ما زلن حتى اليوم يناضلن لنيل حقوق باتت من الماضي لمثيلاتهن في شعوب أخرى، حتى ليظن البعض أنّ حديثاً عن البيئة والفكر النسوي لا يعدو كونه ترفاً تتسلى به بعض النساء، وقد يظهر لنا آخر ليسخف ما يمكن الحديث عنه أمام جرائم القتل والإبادة التي ترتكب في غير بلد عربي، دون أن يدري هؤلاء وأولئك أنّ النسوية البيئة تعنى بكل تلك الأمور ومنها مناهضة الحرب والدعوة إلى السلام وخلق عالم آمن خالٍ من الاستغلال والظلم لكل مخلوقات هذا الكوكب.
تاريخياً.. انطلقت حركة النسوية البيئية في أوروبا في سبعينيات القرن الماضي من وجود علاقة بين الهيمنة الذكورية على النساء وعلى الطبيعة في آن معاً، فقد رأت النسوية البيئية أنّ ما تتعرض له النساء من اضطهاد وعنف وقمع وما يجري في البيئة من تدمير وأعمال تخريب ستؤدي إلى دمار كوكب الأرض انما هما نتاج النظام الأبوي البطريركي والرأسمالي، قامت النسويات في ذلك الوقت بحملات مناهضة للحرب وانتشار الأسلحة النووية وضمت دعاة حماية البيئة والسلام من جميع أنحاء العالم، وكانت النسوية الفرنسية "فرانسوا لوبون" أول من صاغ هذا المصطلح "النسوية البيئية" في كتابها "النسوية أو الهلاك" عام 1974 جنباً إلى جنب مع "روز ماري رد فورد رويثر" التي اعتبرت في كتابها "امرأة جديدة أرض جديدة" 1975 أنّ "على النساء أن يدركن أنه لا يمكن تحريرهن ولا حلّ المشكلة البيئية في مجتمع لا تزال السمة الأساسية له هو الهيمنة"، مؤكدة على ضرورة "توحيد مطالب الحركة النسوية مع مطالب الحركة البيئية بهدف إعادة تشكيل جذرية للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقيم المبطنة في هذا المجتمع الصناعي الحديث".
إن رغبة النظام الأبوي في السيطرة على النساء وإبقاءهن تحت جناحه يتقاطع مع ما يقوم به النظام الرأسمالي القائم على السيطرة والهيمنة من تدمير للبيئة عبر استغلال كافة الموارد الطبيعية أسوء استغلال مما أدى إلى ما باتت تعاني منه البشرية جمعاء من تبعات التبدل المناخي الذي يهدد الأرض بالموت إن لم تتم معالجة المشكلات والعمل بجدية في سبيل الحد من الانبعاثات الحرارية وكل ما يتسبب بكوارث طبيعية، وبات معلوماً أن النساء هن الأكثر عرضة للتأثر بما يجري من دمار بيئي لأسباب كثيرة تتعلق أغلبها بالعقلية الذكورية التي تسود المجتمعات، فالقمع والاضطهاد بكافة أشكاله بما فيه حرمان من بعض الأعمال والممارسات والتعليم ومحاصرة المرأة في أبسط حقوقها إلى غيرها من أمور تساهم بشكل كبير في تعرضهن للخطر البيئي جنباً إلى جنب مع ما يتعرضن له من أخطار مجتمعية وسياسية. إن العلاقة بين النساء والبيئة وبالتالي ظهور حركة النسوية البيئية جاءت من فكرة السيطرة والهيمنة والتفوق التي يمارسها النظام الذكوري على كل ما يقع تحت سلطته باعتباره متفوقاً جسدياً واقتصادياً واجتماعياً، إذ شكلت عقدة التفوق أحد مسببات الكوارث التي تمت الإشارة إليها في كتاب "من وحي النسوية البيئية" ترجمة رجاب شاكر "تعود جذور الكوارث البيئي- اجتماعي إلى القناعات العامة في مجتمعاتنا الحالية أنّ ثمة إنساناً متفوقاً على آخر، وأنّ الإنسان متفوق على جميع أشكال الحياة الأخرى، وأنّ الطبيعة مادة خام لا حياة فيها، وأنّ النمو الاقتصادي ضروري لرفاهنا، ويتوجب علينا الاستمرار في الإنتاج والاستهلاك"، وبذلك تمكن الإنسان المتفوق من إيجاد المبرر لإحكام سيطرته على النساء والبيئة معاً ممارساً سطوته وسلطته بكل ما فيها من أذى واضطهاد.
تسعى النسوية البيئية لحصول الجماعات المهمشة والمضطهدة ومنها النساء على حقها في العيش في عالم آمن ومعافى وخالٍ من التلوث من خلال الحد من كل الأعمال التي تسبب تلوث المياه والتربة وما يترتب عليها من أمراض وأوبئة، وحق الجميع في الحصول على موارد الأرض بلا استغلال من قبل الدول العظمى أو الشركات الكبرى التي حلت محل الاستعمار القديم، وعلى حق الطبيعة علينا كبشر أن نحافظ عليها لعلنا نضمن بقاءنا على قيد الحياة، فقد آن الآوان للتحرك بجدية سواء من قبل الحركة النسوية البيئية أو غيرها من منظمات مهتمة بالبيئة لدرء الأخطار التي لن تقضي على الطبيعة فقط، بل ستطالنا جميعاً يوماً ما ان استمر الوضع على ما هو عليه اليوم، إننا بحاجة إلى سلام وأمن يعم كوكب الأرض بكل كائناته ليبقى ونبقى.