هل يسعى الأدب إلى الإنسان الجيد؟

ثقافة 2024/09/02
...

  ياسين طه حافظ

مثلما يبدو السؤال مريحاً هو يضمر تشككاً قد نميل إليه. السبب أننا لا نلتقي دائماً بنماذج من منتجي الأدب يتسمون بالايجابيَّة الأولى. بعض كذبة، بعض كبعض عموم الناس، مرتزقة ومراوغون، وبعض طبعاً صالحون، كما منهم شهداء. لكن هذا المدخل للموضوع، مدخل عليه اعتراض. نحن نسأل عن الأدب، كفعل ثقافي، وحصيلة ثقافيَّة فكريَّة، أيسهم في الوصول إلى الإنسان الجيد؟، إذاً السؤال عن العمل الأدبي كنتاج ثقافي له خصائصه.
لأبدأ بنظرية من القرن السابع عشر. تبدو هذه النظرية غير مُرْضِيَة، ولا تخلو من توحّش لكني أرى فيها "منطقة انطلاق" واقعيّة وحقيقيّة لمواجهة ما تعانيه البشريّة. ومعاناة البشريّة هنا، معاناة أخلاقيّة وماديّة. وهي ماديّة طبعاً قبل أن تكون أخلاقيّة. المعاناة المادية تؤسس لما يليها أو يتبعها. صاحب النظرية هو هوبز Hobbes، النظرية اكتملت في 1651 وفرضت نفسها على كل المفكرين في حينها وعلى كثيرين من بعد. هوبز يخاطب الناس:
"إنّكم سيئون طبيعيَّاً. لا يوجد في العالم أي مبدأ روحي، وما من خير سوى المتعة ولا شر سوى الألم. وما من هدف سوى المصلحة وما من حرية سوى إزالة العقبة أمام الشهوة. وبما أن مبدأ المحافظة على الحياة هو الأنانيّة وبما أن كل واحد يدافع عن حقه في الحياة، وأن حال الطبيعة هو حال الصراع بين البشر، فإن حال البشر في هذه الحرية الطبيعيَّة هو حال الحرب، لأن الحرب ليستْ شيئاً آخر غير الزمن الذي خلاله تكون الإرادة والجهد في الهجوم والمقاومة بالقوة، وهو زمن معلن بشكلٍ كافٍ بالأقوال أو بالأفعال.. والزمن ليس الحرب، هو ما ندعوه سلاماً...".
لا نستطيع إعادة ما كان من مناقشات، اعتراضاً على أو موافقة لما قيل فقد وجدت جمهورها من المفكرين وأصحاب الدرس الأخلاقي ومن أقطاب الفكر الديني. ما نستطيع قوله هنا إن في النظرية ما نوافق عليه وما نراه صواباً. وهو هذا الذي نشهده في مجتمعاتنا والذي خبرناه. وهو يقع صحبة ادعاء الفضيلة والمروءة والتعاطف والكثير من الاقوال في الصلاح وفيما ينفع الإنسان فرداً والناس مجتمعات.
ما أريده بتعيين أكثر: هو بماذا يستطيع الأدب وفي أي الجوانب يبدو أثره أفضل، إن كان له أثر، أو كان ما كنا اتفقنا على أنه مؤثر فاعل في حياة وفي سلوك الناس؟
أرى أن الأدب، وأن الفنون، مثلها مثل الأديان تقول بالخير وتدعو الناس للأفضل. وهي بهذه الدعوات اذا لم تجد مستجيبين تماماً، فهي تقلل من اندفاعهم وتقلل من الغلواء من الأنانيّة ومن عدم الاكثارات للبشر من حولهم. الأديان وضعت العاقبة وعداً بخير أو لافتة تحذير من سوء أو عقاب، موقنة أن سلطاتها تظل تنهي عن الشر ولكن ليس لها القوة الكاملة على منعه في الارض.
عمليَّاً، واقعاً، ماذا نرى من أثر لما نقرأ من قصص وأشعار وكتابات عن القبح أو عن الجمال؟، ماذا نجد في تشابك الأحداث وخصومات الشخوص واختلاف نزوات المجتمعين في بيت أو مصنع او مؤسسة او منظومة عمل؟، نجد أسفاً وأشواقاً، نجد خلافات وكراهات ونجد مشكلات وحلولاً ونجد في الأخير عقدَ سوءٍ مستعصية، تشير رمزيتها لحياتنا وما فيها. والقصيدة أو الرواية أو سواها من الكتابات الأدبيَّة تقدمُ صفحات جمال وأزمنة فرح وترح ورضا وتفاهات، وترسم خواتم تهب معنى ان لم تهب رضا. هو مسعى للملائمة إذاً، لتعويض النقص، لتيسير الحل، لابتداع ممرات خلاص. هي عموماً لصنع التسوية والتوصل من كل تلك المبادرات والخطط والأفكار إلى عالم استطاع أن يهدأ أو أن ينسجم أو يحقق عدالة أو يؤدّب معتدياً أو يحذرنا من شر أو يقول لنا في نهايته حققنا صفاءً نوعاً ما أو أوجدنا في الختام سلاماً أو انهينا صراعاً دام عشرات الصفحات هي صفحات الكتاب.
قرأت كثيراً وكتبت كثيراً، وحتى اليوم لم أجد للأدب معنى عملياً في حياتنا الواقعيّة أفضل من هذا. تستطيع أن تخرج منه بتصانيف وأسماء، ولكن في رأيي هي هذه حقيقته العملية الأدبية وهنا تكمن محبتنا له كما يطيب الرضا.
لكننا أيضاً نخطئ اذا حمّلنا الادب أكثر مما يستطيع حمله. الناس عموماً في إشكال دائم بين الحياة والحرية. هم لا يريدون التخلي عن الحرية ويرونها مكمِّلَ حياة. من جانب آخر هم في الموقف الحرج، سرعان ما يغيب الاختبار ولا يبقى إلا الانحياز للحياة. وبين ناس الحرية المنتزعة والناس المسيطرين أو اللا مبالين بمفهوم الحرية كله من أجل الحياة أو من أجل الاحتياج الشخصي الساخن والأبرز والأشهى– تتعدد اشكال المآسي وأشكال الاشتباكات والمواقف وما يفيض من عواطف متقاطعة الاتجاهات.
هنا الأدب يعرض "قطاعاً" من حياة، ويحاول تصفية مربكاته أو يحاول اعادة تنظيمه، فهو يحقق عدالة او يؤدب او يهب عوضاً أو يعد بمستقبل، فلا تبقى تلك الحياة كما كانت. هو اسهم في كلام منه، وعقل منه وحكمة، وفهم وحسن أسلوب، ليقنع ويرضي ويرسم خاتمة نجد المتعة فيها أو نأسف للمرارة ولنحس بتعاطف معها. هذا ما يصنعه الأدب للحياة.
ولكن، وهذا أمر مؤسف ذكره، بعد الأسف الأشد على وقاحة واتساع حضوره، نحن نواجه واقعاً أخلاقياً إذا امتاز بشيء فيمتاز بالانفلات واستساغة رمي اللافتة والمرور، كما يقولون في المرور.. خلاصة كلامي ان علينا الاقرار بأن جميع المبادئ التي كانت وما تزال، تكوّن الاستقامة، هي وكل الوصايا بها، قد انهارت. وأن التجاوزات صارت تغلب الردع والوصايا وتتجاوزها. ثمة عدم اعتراف بصوابها ولا بهيبتها الأخلاقيّة. وما نشهده اليوم في مجتمعنا وفي المجتمعات المماثلة كثيراً، ولا أراه يستوجب محاججة.
وهنا لا يستطيع الأدب ولا تستطيع الفنون اعادة القطعان المنفلتة الى حضائرها بعد أن استسهلت المروق إلى ما تشتهي. وهذه التمردات على الإرث الأخلاقي، والمبادئ التي استقرت عليها حياة المجتمعات، غير قاصرة على فئة أو مهنة أو جماعة. يمكن أن تجدها في كل المؤسسات، كل الفئات، كل التجمعات وحتى بين الرعاة الاخلاقيين. القدرات الأدبية والفنية أعجز من أن تعيد كل هذا إلى أماكنه.
الأدب الآن يشير لنا ويعرض حركة الأخطاء، ويقول لنا بأسف مرّ: هي هذي حياتكم!