خطط حكومية للحفاظ عليها.. فينيسيا العراق تئنُّ من الجفاف

ريبورتاج 2024/09/10
...

 فجر محمد   تصوير: احمد جبارة

عندما أعلن عن دخول أهوار العراق في العام 2016 ضمن لائحة التراث العالمي، كانت فرحة سكان تلك المناطق لا توصف، إذ توقعوا أن حالهم سيتحسن والأهوار ستنتعش وستعود تلك المسطحات المائية إلى الازدهار من جديد، وسيسمعون ويشاهدون أفواج الطيور المهاجرة القادمة من أصقاع الأرض، وأصواتها تصدح في المكان من جديد، ما سينعكس إيجاباً على الاقتصاد وتحسن الوضع العام.

تلك كانت أحد أحلام الحاج أبي ماجد الذي يقطن منذ طفولته الأهوار، ويرتبط بها ارتباطاً وثيقاً ومهماً، ومرت عليه أزمات فيها، ورفض مغادرتها، وظل متشبثاً بها.
بعد أن صوتت منظمة اليونسكو على ضم الأهوار إلى لائحة التراث العالمي في العام 2016، غمر التفاؤل سكان تلك المناطق الأثرية والعريقة، وتوقعوا عودة المياه وبمنسوب عالٍ، لكن التغيرات المناخية وظروف البلاد كان لها رأي آخر.
ومن الجدير بالذكر أن منطقة الأهوار تعرضت إلى حملة تجفيف من قبل النظام المباد، خصوصاً في خمسينيات وتسعينيات القرن الماضي، وذلك لأسباب سياسية ثم أضيف إليها في السنوات اللاحقة ما حصل من تغيرات وتقلبات مناخية، ألقت بظلالها على مفاصل الحياة، ما حرم سكان تلك المناطق من فرحة الانتعاش الاقتصادي. واليوم ومع أزمة المياه والتغيرات البيئية المختلفة أصبحت معاناة الأهوار وسكانها، مضاعفة وكبيرة جداً.

قلة الإطلاقات المائيَّة
تحتاج مسطحات مثل الأهوار إلى إطلاقات مائية كبيرة، من أجل ضمان عودة النظام الإيكولوجي والحيوانات التي كانت تعد من النوادر، فضلاً عن النباتات والحشائش التي كانت تجد في تلك الأماكن موطناً ومستقراً، ويوضح الباحث والناشط البيئي والمختص بالأهوار أحمد صالح نعمة أن تلك المسطحات المائية بحاجة إلى اهتمام حقيقي، إذ يجب أن تكون نسبة الإطلاقات المائية كافية لعودة الحياة إلى الأهوار وحيواناتها ونباتاتها، فعلى الرغم من زيارة الجهات المختصة لهذه المناطق مؤخراً غير أن الحاجة الحقيقية للمياه تفوق ما تم إطلاقه، خصوصاً مع جفاف عدد كبير من الأهوار التي كانت تزين مناطق وقرى محافظة ميسان، فضلاً عن المناطق الأخرى.
ويشعر نعمة بالأسى على حال الأهوار في يومنا هذا، ويتوقع مع مرور السنوات اختفاء عدد كبير من الطيور المهاجرة التي كانت تأتي من دول العالم المختلفة، بحثاً عن المياه والنباتات، ما يعني تغير اللوحة الطبيعية التي كانت تميز الأهوارفي السابق.

نفوق الأسماك
لطالما تمتــعت الأهوار بثـــروتها السمكية النادرة، التي تعد رفيقة الأسرة العراقية في المناسبات والأيام المميزة، غير أنها تأثرت هي الأخرى بالواقع الصعب، ويوضح قاسم رزاق الساكن في أحد أهوار ميسان، والذي لم يعرف مهنة سوى صيد الأسماك، أسوة بوالده وأسرته، أنه اليوم يبحث عن مصدر آخر لإعالة أسرته المكونة من ثلاث بنات، عاصر رزاق الأهوار عندما كانت تنتعش بالمياه وتمتلئ بأنواع الأسماك، أما اليوم يرثي رزاق حال تلك المناطق التي كانت من عجائب الطبيعة ومقصداً للسياح، ويشكو حاله وزملائه بعد فقدانهم لمصدر دخلهم.
ويتحدث قاسم والأسى يملأ صوته قائلاً: "إيجاد عمل بديل آخر، عوضاً عن مهنة صيد الأسماك التي أخذت بالاندثار، أصبح واجباً وأمراً مفروغاً منه".
تشير التقارير الاعلامية إلى هجرة عدد كبير من صيادي الأسماك، وتوجههم إلى مهن أخرى بديلة من أجل إعالة أسرهم، وتلفت التقارير إلى أن هذه المهنة تزداد صعوبة يوماً بعد آخر، بسبب قلة المياه والجفاف الذي ضرب عدداً لا يستهان به من الأهوار. فبعد أن دخل هورا الجبايش وأم النعاج في لائحة التراث العالمي في العام 2016، تعرضا إلى الجفاف في يومنا هذا، وغادر عدد كبير من سكان المنطقتين ونزحوا إلى أماكن أخرى.

سمة مميزة
يعرف الخبراء والعلماء الأهوار بأنها واحدة من الكنوز الطبيعية، فهي مسطحات مائية تغطي الأراضي المنخفضة، وتقع أغلبها جنوب السهل الرسوبي في العراق، كما تتواجد في بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأميركية، لكن الأهوار الأكثر تميزاً ووضوحاً توجد في مدن العمارة والناصرية والبصرة، إذ كانت تغطي أكثر من 40 ألف كيلو متر مربع، لكنها اليوم تواجه خطر الجفاف بسبب قلة المنسوب المائي، واعتمادها على مياه الأمطار فقط، فضلاً عن الإطلاقات المائية التي لا تسد الحاجة.
 لا تعد الأهوار مسطحات مائية ومليئة بالكنوز الطبيعية وحسب، بل تعد في كثير من الأحيان من القطاعات الإنتاجية المهمة في البلاد، وكما يشير الباحث بالشؤون الاقتصادية الدكتور فالح الزبيدي فإن أهميتها تكمن بكونها مصدراً لإنتاج الألبان، والطيور والأسماك وأغلب ما تحتاجه المائدة العراقية، كما أنها عدت قطاعاً سياحياً ناجحاً، لا سيما في بدايات عودة المياه إليها، ولو جرى الاهتمام بها بشكل صحيح، لأصبحت مصدراً مهماً ورافداً للاقتصاد المحلي، ويبين الزبيدي أن الأهوار حصلت على لقب مهم؛ نتيجة كنوزها الطبيعية وما تمتاز به من ميزات، إذ أطلق عليها اسم فينيسيا العراق.
وينبه الزبيدي إلى افتقار الأهوار إلى الأهمية الكبيرة والحقيقية، ما حرمها من أن تكون وجهة سياحية للأجانب وأفراد المجتمع على حد سواء، فهي تفتقر إلى الفنادق والآليات والوسائل التي تسهل على الزوار التنقل فيها، ويعتقد الزبيدي أن عدداً كبيراً من سكان الأهوار حرموا من حقهم في الحصول على فرص عمل مناسبة، فضلاً عن التعليم، ما دفعهم إلى هجرة أراضيهم باتجاه المدن التي تعاني هي الأخرى من البطالة والاكتظاظ السكاني.
ويذكر الزبيدي تجربة دولة فيتنام في الاستغلال الأمثل لمستنقعاتها المائية، التي تشبه إلى حد ما أهوار البلاد، بعد أن كانت ساحة للمعارك مع الجيش الأميركي تحولت لاحقاً إلى زراعة الرز، وأصبحت متميزة بهذه الزراعة، لما يمتاز به من جودة عالية والطلب عليه يكون مستمراً من دول العالم المختلفة، ويرى الزبيدي أن الأهوار بمقدورها أن تصبح مورداً اقتصادياً مهماً ووجهة سياحية متميزة، لو حصلت على الاهتمام المطلوب لتنهض من جديد.

نضوب الموارد
تختلف الموارد الطبيعية في أماكن توزيعها ومنها الأهوار، بحسب الباحث بشؤون البيئة الدكتور قيس جاسم فهي تتوزع بشكل غير متساوٍ في جميع أنحاء العالم. ومن اللافت للنظر أن هناك مناطق في العالم لديها وفرة من موارد طبيعية معينة، ولكنها تفتقر إلى أخرى ويتأثر الموقع الجغرافي لتلك الموارد بالعوامل الجيولوجية المتعلقة ببنية الأرض والبيولوجية المتعلقة بالحياة عليها أيضاً، فضلاً عن العوامل المناخية المتعلقة بظروف وتقلبات المناخ.
ووفقاً للباحث البيئي الدكتور قيس جاسم فإن مسؤولي الأراضي الرطبة (الأهوار) يواجهون مجموعة جديدة من التحديات لدى التعامل مع التأثيرات الناجمة عن تغير المناخ العالمي. فالأراضي الرطبة معرضة لخطر الانحدار السريع من حيث الكمية والجودة بسبب التأثيرات المرتبطة بتغير المناخ. ومع ذلك، توفر الأهوار أيضاً ستراتيجية فعالة للتخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معها.
يشير جاسم إلى أن معظم مواردنا الطبيعية بدأت بالنضوب لأسباب مختلفة منها الاكتظاظ السكاني والإفراط في الاستهلاك والهدر، وكذلك تدمير النظم البيئية بممارسات غير صحيحة، ما يؤدي إلى فقدان التنوع البيولوجي، ويضاف إلى ذلك الاستخراج الجائر للمعادن والنفط والمياه العذبة، وأخيراً التطور التكنولوجي والصناعي.
منوهاً إلى وجود العديد من الاتفاقيات لحماية النظم البيئية ومنها اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي، وقد أدرج هذا الهدف في (اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي أو اتفاقية التراث العالمي لسنة 1972) وهو من بين المهام التي تضطلع بها اليونسكو.
وينبه جاسم إلى ضرورة الانتباه لقضية الإفراط في استغلال الموارد الطبيعية وإهمالها، التي قد تؤدي إلى نقصها المتسارع، ما يجعل بعض الموارد نادرة أو حتى منقرضة. وهذا يسبب اختلال التوازن البيئي، وفقدان التنوع البيولوجي، كذلك التحديات الاجتماعية والاقتصادية مثل الصراعات الناجمة عن فقدان تلك الموارد.

مقترحات مختلفة
يطرح الخبراء مجموعة من المقترحات والأفكار، التي من شأنها النهوض بواقع الأهوار ومنها ضرورة الاسراع بزيادة الإطلاقات المائية، مع إيلاء اهتمام أكبر لهذه المناطق التراثية وسكانها، لندرتها في العالم، فضلاً عن أهميتها الحضارية والتاريخية، بالإضافة إلى الاقتصادية.
وتجدر الإشارة إلى أن وزارة الموارد المائية أعلنت في آذار الماضي، عن وضعها لمجموعة من الإجراءات والتدابير بهدف الحفاظ على أهم الأهوار في العراق، ومن بينها الشافي في محافظة البصرة، إذ عملت الجهات ذات العلاقة على تصريف مياه الفيضانات إلى تلك المنطقة. بينما أكدت الوزارة استمرار ملاكاتها الهندسية بتطهير مغذيات الأهوار والأنهر الرئيسة والفرعية من الترسبات الطينية.