مذكرات آدريان: الثقافة سلاحُ الإنسانيَّة

ثقافة 2024/09/10
...

 ترجمة: كامل عويد العامري

بعد أن تتخذ صيغة مراسلات مفتوحة في اتجاه واحد، تغوص بنا يورسنار في خضم سنوات حياة الإمبراطور الروماني الأسطوري آدريان، الذي وصل إلى سدة الحكم في سنِّ الأربعين عام 117. وبعد أن خدم تراجان بأمانة في حروبه التوسعيَّة، اتخذ آدريان قرارًا مثيرًا للجدل في عصره باختيار السلام. يقول: "بما أنَّ الكراهية والغباء والجنون لها آثار دائمة، لم أكن أفهم لماذا لا يكون للوضوح والتسامح والعدل آثار دائمة أيضًا؟" طوال فترة حكمه، لم يكن يسعى إلى توسيع الحدود بقدر ما سعى إلى تعزيز الانسجام بين الشعوب التي تشكّل إمبراطوريته.
تكشف لنا مارغريت يورسنار بأسلوبها السلس وكأنّه أسلوب من وحي الآلهة، عن قوّة انتقال المعرفة المتراكمة. يكتب آدريان هنا إلى من سيجلس على العرش من بعده، ماركوس أوريليوس، قائلًا: "لقد خططت أن أحكي لك قصّة حياتي". ويضيف: "أنا أعوّل على هذا الاستعراض للوقائع لتكون قادرًا على التعرّف وربما للحاكم عليَّ، أو على الأقل لتعرفني على نحوٍ أفضل قبل أن أموت". كان الاهتمام بالإدلاء بالشهادة والاستعداد يصاحب تدهور حالة الإمبراطور الجسديَّة.
توالت تدريباته العسكريَّة، وإعجابه باليونان، وأسفاره، وميوله الثقافيَّة، وحتى حبّه للشاب أنتونينوس، كلها نُحتت في الرخام كأوامر مفعمة بنفحة من الحياة المعلّقة التي تجسّد رسالته لا أن توضحها. إنَّ السحر المرهف الذي تحمله أناقة ونقاء هذه الذكريات التي يرويها هذا الرجل العظيم كان مؤثرًا. هذه المذكرات المتخيلة تقدم "ميثاقًا عظيمًا" قد أعيد النظر فيه، وإرثًا فلسفيًا وسياسيًا وإنسانيًا فيه يتضافر التسامح والرؤية السامية والثقافة لحماية الحضارة من كلِّ ما قد
يُهدّدها.
لا يتواصل الرواقي مع ابنه بالتبنّي فقط. فرسالته موجهة إلى الجيل الأول من قرّاء هذه التحفة الفنيَّة، الذين دمّرتهم الحرب العالميّة الثانية، وكذلك إلى كل الأجيال التي تلته، بما في ذلك جيلنا الذي يحتاج إليها بشدة. إنَّ الروائيين لسحرة.

الوئام الإنساني
وعندما أثاره تنوع التنظيمات البشريَّة، تحدى آدريان فكرة الانطواء وتوجه إلى لقاء الآخرين والعالم الواسع، الذي جابه بلا كللٍ بفضول متعاطف.  كان يقول: "كنت أشدّ حرصًا على أن أرى كلَّ شيءٍ بأمِّ عيني". خلال عهده الذي دام عشرين عاماً، قضى اثني عشر عاماً خارج روما، سافر في كلِّ أنحاء الإمبراطوريَّة وما ورائها.
يقول: "كنتُ قد أمضيتُ أفضل سنوات شبابي في السفر، في الترحال، في المعسكرات والثغور". كانت الثقافة سيفه، والانفتاح شهيته. ومن هنا كان اهتمامه الكبير بالعلم. وهو الذي يقول: "لطالما كنتُ صديقاً لعلماء الفلك وزبونًا للمنجمين". ومن هنا أيضاً "شوقه إلى الغربة" الذي دفعه إلى التطلّع نحو الشرق، حتى لو استدعى ذلك التخلي عن روما: "أي مناخات، وأي حيوانات، وأي أجناس بشريّة كنت سأكتشف، وأي إمبراطوريات تجهلنا كما نجهلها نحن [...]؟"؛ "ما زلنا لا نعرف الكثير عن شكل الأرض. لا أفهم كيف نرضى بهذا
الجهل".
على عكس العديد من الأباطرة الرومان، لم يولد آدريان في روما، بل في إسبانيا. يقول: "تؤكد الرواية الرسميَّة أنَّ الإمبراطور الروماني ولد في روما، ولكنّني ولدت في طالقة [في مقاطعة اشبيلية]؛ وهذه الأرض الجافة والخصبة في الوقت نفسه هي التي أضفت إليها فيما بعد العديد من مناطق
العالم".
منذ البداية، يتبنى الإمبراطور المستقبلي وجهة نظر بعيدة عن المنطقة التي سيُدعى إلى حكمها. وقد غذت تربيته الهلنستية ودراسته للإنسانيات فيه روح الاعتدال التي تتعارض مع الطموح الجامح للسلطة لدى العديد من القناصل. يقول آدريان: "كنتُ معتدلاً مع المتعة"، فحكمته تكمن في تبنّي مختلف الأفكار والثقافات لفهمها بشكل أفضل، مفضلًا الانسجام على الصراع والتكامل على التضاد.
كافح آدريان طوال حياته ضيق الأفق وعزز من الثقافة. ولهذا السبب كان يخشى العقائد المسيحيَّة الناشئة. يقول: "كنت أكتشف تحت تلك البراءة الخجولة والمملة، عناد المتعصّب الشديد عندما يواجه أشكالًا من الحياة والتفكير لا تتوافق مع أفكاره، وكبرياء المتغطرس الذي يجعله يفضل نفسه على بقية البشر، ونظرته المحاطة عمدًا بالغشاوة". وقد ذهبت روح الإمبراطور النقديَّة إلى حدِّ التشكيك في التعليم السائد في روما وتعديل المناهج الدراسيَّة: "وفضلًا عن ذلك، بدا لي في كثيرٍ من الأمور أن أفكار فلاسفتنا محدودة ومربكة وعقيمة أيضًا"... "لقد أمرت بإدراج أعمال هسيود وإنيوس المهملة في المناهج الدراسيَّة". كان آدريان يرى في الكتب وسيلة للحفاظ على تاريخ الأفكار التي أسهمت في تحسين البشريَّة شيئًا فشيئًا رغم ميولنا
السيئة".
ولما كان الإمبراطور الفيلسوف يرفض أن يسلك طرقًا مختصرة، فقد شارك شغفه بالتفاصيل الدقيقة. "كنتُ أحاول أن أوضح لليونانيين أنّهم لم يكونوا دائمًا الأكثر حكمة، ولليهود أنّهم ليسوا الأنقى بأيِّ حالٍ من الأحوال".. كان يتأسف لضيق الأفق والتعصّب لدى الشعوب التي تعيش معًا تحت وصاية روما من دون أن يعرف كلّ منها شيئًا عن الآخر. "إنَّ هذه الأجناس التي عاشت قرونًا متجاورة لم يكن لديها الفضول للتعرّف على بعضها البعض، ولا حتى أدنى حدٍّ من اللباقة لتقبّل
الآخر".
لقد صقل آدريان خياله وأذكى شعلة فضوله ليضعها في خدمة نزعته السلميَّة. وتجلّى ذلك في لقائه مع الإمبراطور الفرثي خسرو الأول. هنا يروي آدريان قوة التعاطف، ذلك الفن في الدخول في جلد محاوره الآخر من أجل اكتشاف أرضيَّة مشتركة. "
لقد ساعدني نظامي العقلي الفضولي على التقاط تلك الأفكار المراوغة: كنت وأنا أجلس أمام الإمبراطور الفرثي أتعلّم كيف أن أتوقع إجاباته وسرعان ما كنت أوجهها إليه؛ كنتُ أتخيّل نفسي خسرو الأول؛ يتفاوض مع آدريان. كان اللقاء ناجحًا. و "إن الاتفاق الذي توصلنا إليه خلال هذه الزيارة لا يزال ساري المفعول؛ فمنذ خمسة عشر عامًا، لم يُعَكِّر صفو السلام على حدودنا أيّ شيءٍ من كلا
الجانبين.

حارس الكنوز الأبديَّة
يلاحظ آدريان وهو يسترجع ذكريات طفولته: "أنَّ المكان الحقيقي للولادة هو المكان الذي فيه يلقي المرء نظرة ذكيّة على نفسه لأول مرة: كانت الكتب هي موطني الأول. والمدارس بدرجة أقل"، وظهرت ثلاث طرق للتعلم: الدراسة الذاتية، ومراقبة الناس والقراءة، التي ظلت واحدة من هواياته المفضّلة طوال حياته. "قرأتُ تقريبًا كلَّ ما كتبه مؤرخونا وشعراؤنا، وحتى رواة القصص، رغم أنَّ هؤلاء الأخيرين يُعتَبَرُون غير جادين، وربما كنت مدينًا لهم بمعلومات أكثر مما جمعتها من المواقف المتنوعة التي مررت بها في حياتي الخاصة"،
ولكل ما قيل.
خلال أسفاره العديدة، أحاط آدريان نفسه بالمؤلفات التي جمعها وخزنها بعناية في فيلا خاصّة به، فيلا آدريانيَّة بناها كما يبني نصًّا. "كنتُ أشعر بشكل متزايد بالحاجة إلى جمع وحفظ الكتب القديمة، وتكليف النسّاخ من ذوي الخبرة والدقة بإعداد نسخ جديدة منها".. و"كانت الفيلا قد اكتملت بما يكفي لأتمكن من نقل مجموعاتي، وآلاتي الموسيقيّة، وآلاف الكتب التي اشتريتها من هنا وهناك خلال أسفاري".
كان آدريان يرى نفسه حارسًا للجمال بجميع أشكاله، سواء أكان فلسفيًا أم أدبيًا أم جماليًا. فكتب عن الثقافة الهلنستية: "كنتُ أشعر بالمسؤولية عن جمال العالم"... "لقد عاهدتُ نفسي أن أسهر على الإله الأعزل". كان الإمبراطور مهتمًا بجميع الفنون. وفضلًا عن كونه مثقفًا، كان أيضًا عاشقًا للموسيقى. حتى أنّه كان يؤلف القصائد ويعزف الموسيقى. "في المساء، تراجعت الهندسة المعماريَّة لصالح الموسيقى، ذلك البناء
الخفي.
لقد مارست جميع الفنون بشكل أو بآخر". لقد فتن الفن والأدب الرجل الذي وجد فيهما نبعًا لتعلّم لا ينضب، تمامًا مثل الحياة نفسها، التي كان لا يزال يستقي منها الدروس حتى قبل وفاته ببضعة أشهر. "لستُ متأكداً من أنني تعلّمت كلَّ شيء. سأواصل الاستماع إلى تعليماتها السريَّة حتى النهاية".
ومع ذلك، تبدو له جماليات الأعمال الأدبيَّة هشّة للغاية: "كنتُ أقول لنفسي إن الأمر لن يستغرق سوى بضع حروب [...] لتزول إلى الأبد الأفكار التي وصلت إلينا عبر هذه الأشياء الضعيفة المصنوعة من الألياف والحبر. كان يبدو لي، أن كلَّ إنسان حالفه الحظ في الاستفادة من هذا الإرث الثقافي أنه مؤتمن على أمانة تجاه البشريَّة".. هذا هو المكان الذي يخاطب فيه الكثير منا. وبهذه الكلمات، يحثنا على التفكير.
تدعو "مذكرات آدريان" الحكام والميسورين على حدٍّ سواء إلى أن يكونوا المدافعين عن الفن، والإبداع، والجمال. وبالمثل، دعونا نراهن على ما كان يسميه "الأب دو بوس، ومونتسكيو، وفولتير، وجيرمين دي ستايل والجمهورية الثالثة، بالفنون والآداب"، كما يذكرنا مارك فومارولي العاشق الكبير للفنون في كتابه الرائع "في مكتبتي. الحرب والسلام" الذي صدر بعد وفاته عن دار بيل ليتر تحت إشراف كارولين نوارو. تمامًا كما فعل آدريان، حان الوقت لنشعر مجددًا بـ "المسؤولية عن جمال العالم". بقدر ما نحن مسؤولون عن صحة كوكبنا ومستقبل علاقاتنا ومصير اقتصاداتنا. دعونا لا نرضخ بعد الآن لتلك التسلسلات الهرميَّة البائسة التي تريد من الثقافة أن تصاب بالسقم وتتراجع إلى الوراء وتتقلّص
مكانتها".
لم يتوقف آدريان أبداً عن الإيمان بما ينجزه الإنسان من عمل عظيم. وحتى في نهاية حياته، لم يتخلَّ عن شكل من أشكال الأمل عندما ينظر إلى المستقبل.
يقدم لماركوس أوريليوس بعضًا من دروس حكمه، مشددًا عليه الحفاظ على ما وُرث من اليونان من إنسانيّة وثقافة وحريّة. "سيسود السلام من جديد بين فترتين من الحرب؛ وستستعيد كلمات الحرية والإنسانية والعدالة هنا وهناك المعنى الذي حاولنا أن نمنحها لها. كتبنا لن تندثر جميعها؛ وستصلّح تماثيلنا المكسورة؛ ستبنى قباب وأقواس أخرى على غرار قبابنا وأقواسنا؛ وسيفكر بعض الناس ويعملون ويشعرون كما فعلنا: إنني لأجرؤ على الاعتماد على هؤلاء المكملين لنا والمنتشرين على فترات غير منتظمة عبر القرون، على هذه الخلود المتقطع".
من خلال مخاطبته لمتلقيه الأول الذي وجه إليه رسالته، فإن الإمبراطور الوهمي يخاطب في الحقيقة جميع الحكام، هؤلاء الورثة البعيدون من أجل عملٍ خالدٍ استكمالًا لمن سبقوهم، مع إدراك أنَّ هذا العمل معرض للتهديد، ولكنّه قابل للتطوير عبر القرون.
* مارغريت يورسنار Marguerite Yourcenar؛ ولدت باسم مارغريت أنطوانيت جين ماري غيسلين كلينويرك دي كريينكور؛ في 8 يونيو 1903 - ببروكسل، وتوفيت في 17 ديسمبر 1987) كانت روائيَّة وكاتبة مقالات فرنسيَّة من أصل بلجيكي أصبحت مواطنة أمريكيَّة في عام 1947. فازت بجائزة فيمينا وجائزة إيراسموس، وكانت أول امرأة تُنتخب لعضوية الأكاديميّة الفرنسيّة في عام 1980. وفي عام 1965، رُشّحت لجائزة نوبل
في الأدب.