د. عباس كاظم رحيمة
فلسفيًا، ومع تفكيكيَّة "جاك دريدا" المستندة الى نقض الصوت، أو بمعنى أدق رفض فكرة أولويَّة الكلام على الكتابة، فإن العرض المسرحي الكوريوغرافي لا يستعين بالملفوظ الحواري فضلا عن أنه لا يعتمد على نص مكتوب بل يمنح الجسد الدور الرئيس في التواصل، بمعنى الكتابة من خلال الجسد، حيث كل حركة مسرحية هي لفظ تعبيري يصف حالة ما. فإذا كانت العلاقة بين المتكلم والمستمع قائمة على حضورهما معا في الزمان والمكان،
فإنَّ الكتابة قائمة على التباعد زمانيًا ومكانيًا، بينما العرض الكوريوغرافي يتحقق بحضور المتلقي في الزمان والمكان، ولكنّه يبتعد عنه في التفسير الدلالي وتحقق المعنى لدى المتلقي. بمعنى أنّه يلتقي مع الكلام بسمة حضور المتلقي مع العرض، وفي الكتابة بغياب أي تصورات كاملة ونهائيَّة لحركة الجسد. وبهذا يعد الجسد الكوريوغرافي وسيلة إيصال المعنى ووسيلة لطمسه، أي أنّه يمتلك القدرة على التعبير وقادر أيضًا على الإيغال في الغموض أو غياب المعنى.
وبهذا فإنَّ الجسد قابل على الإخبار والإنشاء، يؤدي الجسد إلى الإخبار في حالة أن الثيمة (الفكرة) تَغلُب على طريقة تجسيدها، أما في حالة الإنشاء يتغلب الطابع الجمالي على المعنى الكامن وراءه. وهنا، يخضع الطابع الإخباري للجسد بوصل المعنى بالحركة الموضعية أو بحركة شاملة متضمنة الانتقال من مكان إلى آخر، وقد يستخدم الجسد للتشبيه التام، كأن ينقل صورة شجرة وهو بذلك يتمثلها بشكل أيقوني، أو قد يتخذ الجسد صورة تشبيه بليغ كأن يرمز إلى شيء لا الشيء نفسه، وبذلك يمثل الجسد استعارة ترميزيَّة منفتحة الدلالات. لأنّه في علم المعنى الخاص بالجسد ثمة ركن أساسي له علاقة بالمعنى، بينما في حالة عدم التأكد لا يمكن أن نكون موقنين من تفسير حركة ما مهما كانت بسيطة وبدائيَّة. فقد تعمل أسس علم المعاني والبلاغة في توسيع دائرة التأويل، وفي ذلك انتقالة بالمعنى من الديمومة إلى القطيعة إذ تنبع الديمومة من التصور القبلي للفعل المسرحي بينما القطيعة تصطدم بلا إمكانية تأكيد المعنى.
وبذلك، يُشظى المعنى على إمكانية هائلة من الاختلاف في التفسير ليس بين متلقٍ وآخر، بل في وعي المتلقي الواحد، إذ بإمكان الحركة أن يفسّرها بهذه الطريقة أو تلك تبعًا لزاوية النظر التي ينظر من خلالها إلى العالم والفن وهو عنصر انقطاع أساسي في الكوريوغراف. وفي هذا السياق فإنَّ المتلقي لا يمكنه التنبّؤ بالحركة الجسديَّة التالية حتى تحدث أمامه وتتجسّد، وفي الوقت نفسه فإنَّ كل حركة في الأداء الجسدي لكل مؤدٍّ تتفاعل مع بعضها إلا أنّها تمثل في مجملها سيرورة من التحولات والشك والمصادفة في اختلاف الحركة بعضها عن بعض شكلًا ومضمونًا. ومن هنا فإنّ التواصل يكون من خلال الجسد، ولكن الجسد نفسه يمثل حالة من الانفصال والانقطاع في إعطاء تفسير واضح ومحدد لمعنى الحركة بوصفها جملة مسرحية تتأسس على المعنى ونقيضه- على نحو تقريبي فهي تمثل بديلًا موضوعيًا للنص- هذا من جهة، وإن كل حركة هي بمثابة تحطيم وتقويض لأي نقطة ثابتة تحيل إلى معنى ما، من جهة أخرى.
وهنا، يتضمن العرض المسرحي الكوريوغرافي شكلين أساسيين: أحدهما، يتمثل في المسار الكلي للعرض، بينما يعتمد على المساهمات الفرديَّة في الإطار العام، بمعنى أنَّ هناك نمطًا حركيًا ثابتًا يتكرر كل مرة متطابقًا مع نفسه وهو ما يمثل الفعل المسرحي منذ الاستهلال حتى الخاتمة، وهو يكاد يكون ثابتًا يضفي على العرض طابع الوحدة والهُوية، وهناك شكل مسرحي حركي آخر، يتعرض للتنويع حتى وإن حاول المؤدي المطابقة مع نفسه وهي الحركات التي تنبع من طبيعة الجسد والعلامات الفارقة التي تميّزه عن جسد الآخر. ويكمن الانقطاع في ما يتعلق بهذه المسألة في الآتي:
1 - في أن طبيعة جسد كل مؤدٍّ تختلف عن جسد مؤدٍّ آخر، وتلك الابتكارات الجسديَّة الخاصة بهذا الجسد.
2 - محاولة إبداع شيءٍ جديدٍ كذاتٍ تريد الظهور على مسرح الأحداث.
3 - برهان ذلك، أنه لا يمكن مطابقة عرض كوريوغرافي مع آخر على مستوى الحركة الجماعيّة والفرديّة على الإطلاق، إذ يبدو كل عرض كوريوغرافي مستقلًا عن العروض التي سبقت والتي تلته على سبيل المثال- إنَّ ذهاب الممثل من نقطة (أ- ب) حيث توجد بقعة الضوء، وبذلك يتكرر في كل عرض مسرحي بحذافيره ولا يمكن للممثل أن ينتقل من
(أ- ج) حيث لا توجد بقعة الضوء، وهو ما سيخل في النظام الكلي للعرض المسرحي، إلا أن الاختلاف يكمن في التفاصيل أثناء وجوده في داخل بقعة الضوء أي في النقطة (ب) تبعًا لإبداعه الشخصي والارتجال.
ومن ثمة، فإنَّ كل معنى ينبثق من حركة هو من ثمَّ يختلف ويناقض المعنى الذي أنتجته حركة أخرى، وعليه، فإنَّ العرض المسرحي الكوريوغرافي لا يَعدُّ تمثيلًا لحضور المعنى المكتمل بذاته، بل هو قائم على التعدد والاختلاف.