مقاربات في العلاقات العراقيَّة ـ الإيرانيَّة وأبرز الملفات

قضايا عربية ودولية 2024/09/11
...

  جواد علي كسار





اختيار الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان العراق محطة أولى لرحلاته الخارجيَّة يستبطن إشارة مهمة على ما تسميه طهران أولوية العلاقة مع الجيران؛ من بين محاور ثلاثة تنتظم السياسة الخارجية الإيرانية، هي محور العلاقة مع الغرب (أميركا وأوروبا) ومحور العلاقة مع الشرق (روسيا والصين) ومحور العلاقة مع المنطقة ودول الجنوب (أفريقيا وأميركا اللاتينية). ثمّ تأتي بعد ذلك أهمية الزيارة من قيمة الملفات المشتركة بين الطرفين، وما تحققه الدولتان من تقدم على صعيد كل واحدة منهما.

خريطة الجوار

يمكن القول إنَّ مرتكز العلاقة مع الجوار يعود بالعمق إلى حيثيات جيوسياسية طبيعية وحقيقية؛ طبيعية بحكم منطق الجغرافيا ومحدّداتها الجبرية؛ وحقيقية بحكم السياسة وما يلتحق بها من ملفات العلاقة بين الدول، وفي الطليعة منها الأمن والاقتصاد، ثمّ الثقافة والدين والتراث والتأريخ، وما تحمله من نقاط اشتراك أو التقاء على أقلّ تقدير، بالإضافة إلى ما تمليه العناصر المتحرّكة من متغيّرات إقليمية ودولية.

حين نأخذ هذا المعيار بعنصرَيه (الجغرافية، السياسة) كثيراً ما وجدنا أنَّ إيران تكرّر في المعلومات الأولية لترجيح محورية العلاقة مع الجيران، أنَّ لها جواراً مشتركاً مع (15) بلداً، تمتدّ فيها الحدود البرية والمائية مع هذه البلدان، إلى ما يتجاوز (8) آلاف كيلومتر. البلدان هذه برياً هي العراق (1458 كم) وتركيا (499 كم) وأذربيجان (759 كم من الحدود المختلطة برية ومائية) وأرمينيا (هامش محدود من 35 كم مهدّد اليوم بالإغلاق نتيجة مناورات موسكو وباكو حول ممر زنغزور) وتركمنستان (992 كم) وباكستان (909 كم) وأفغانستان (936 كم) بالإضافة إلى نحو (2500 كم) من الحدود المائية في الشمال مع روسيا وقرغيستان، وفي الجنوب مع الكويت والسعودية وقطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان.

بين النماذج الأربعة التي تنتظم علاقة أي بلد مع جيرانه، وتموضعها بين أنموذج التعايش السلمي، التحالف والاتحاد، التنافس وأخيراً الصراع، يمكن القول إنَّ علاقة إيران عاشت ولم تزل طابعاً إشكالياً في علاقاتها مع جوارها، تجاوزت حدّ التنافس إلى الاشتباك والصراع المباشر، كما حصل مع العراق إبّان السنوات الثماني من الحرب الإيرانية ـ العراقية (1980 ـ 1988م) وإنها لم تدخل مطلقاً في حيز التحالف والاتحاد، بل قصارى ما بلغته هو نوع من التعايش السلمي السلبي البارد، غالب الأحيان.


متغيّر السياسة

وإذا نظرنا إلى علاقات الجوار انطلاقاً من مكوّنه الآخر (السياسة) سنكتشف أنَّ الطابع الإشكالي في العلاقة بين إيران وجوارها لا يقتصر على عصر الجمهورية الإسلامية وحدها، وأطاريحها السيالة المتأرجحة من «تصدير الثورة» إلى «محور المقاومة» مروراً بنظريات بارزة في استراتيجية الأمن القومي والسياسة الخارجية، من قبيل نظرية «أم القرى»، و«الحضارة الإيرانية» بنزعاتها الثلاث المؤثرة، ونظرية «جمهورية بلا حدود»، ونظرية «الاتحاد والائتلاف»، ونظرية «وحدة جيوبولوتيك التشيّع»، ونظرية «الاتجاه شرقاً» وغيرها؛ بل كان ذلك الطابع هو المهيمن أيضاً على علاقاتها مع هذا الجوار في الحقبة البهلوية أيضاً (الأب والابن: 1925 ـ 1979م) ولاسيّما مع جوارها العربي (يُنظر مثلاً: سياست خارجى إيران در دوران پهلوى، أي: السياسة الخارجية لإيران على عهد بهلوي، 1921 ـ 1979م).

برغم الحاجة الماسّة إلى دراسة الإشكاليات الأساسية لعلاقة إيران الخارجية مع الجوار، وما يتهدّد فرص تنميتها وتطويرها من عقبات (ما يهمّنا بشكلٍ مباشر هو العلاقة مع الجوار العربي ولاسيّما العراق) ومعرفة وجهات النظر المختلفة على جانبي الحدود، انطلاقاً من المائز المفترض أنه نوعي في خطّ هذه السياسة ومسارها؛ أقصد به متحوّل انتصار الثورة الإسلامية وقيام الجمهورية بعد شباط 1979م؛ مع ذلك فإنَّ مقتضيات وحدة الموضوع والحيّز المخصّص للمقال وتمركزه حول زيارة پزشكبان، يجعلنا نكتفي بإثارة الانتباه بشأن الموضوع، عسى أن ينهض بذلك من يدرك أهميته، بل وضروريته أيضاً.


العلاقة مع العراق

بفعل المركّب الجيوسياسي المشار إليه آنفاً، من البديهي جداً أن تكتسب العلاقة بين العراق و إيران أهمية مميّزة في السياسة الخارجية الإيرانية، ومن ورائها استراتيجيات الأمن القومي. وهذا ما لا يتخفى عليه أحد في إيران، رغم الإهمال أو شبه الصمت عن الموضوع في الجانب العراقي، ما بعد التغيير (2003م). تشهد على ذلك وتؤكده كثرة المدوّنات النظرية والأكاديمية والسياسية عن هذه العلاقة، وما تعكسه الخبرة الإيرانية من تكييفات ووجهات نظر، وخطط ومقترحات، تصدر جميعاً من مرتكز عميق واحد وجذر جامع لها، هو المصلحة الوطنية الإيرانية (بودي أن أُحيل من بين وثائق الملف الذي بين يدي، إلى ورقة عمل مبكرة صدرت عام 2005م عن وحدة الدراسات السياسية في مركز بحوث مجلس الشورى الإسلامي، تضع مخطّطاً للعلاقة مع العراق على مدار عشر سنوات؛ صدرت بعنوان: العلاقة بين جمهورية إيران الإسلامية والعراق الجديد: الإشكاليات، الفرص والتهديدات، بالفارسية. من يقرأها اليوم يلمس بوضوح اقتفاء السياسة الخارجية الإيرانية في العلاقة مع العراق، لمقترحات هذه الورقة وما يقع على شاكلتها، ما يعني وجود خطّ سير استراتيجي ولو عام، في هذا الموضوع).

سأضع جانباً المدوّنات النظرية والأكاديمية، ومئات الكتب والبحوث وأضعاف أضعافها من المقالات الصحفية واليومية، مما يعكس الرؤية الإيرانية وتصوراتها للعلاقة مع العراق، وما تنطوي عليه من فرص وإشكاليات، وأكتفي بالتركيز على أنموذجين تتضاعف أهميتهما بأهمية كتّابها، وقد تسنم كلاهما منصب وزير الخارجية في بلده، ما يعني أنَّ شهادتهما على العلاقة المشتركة شهادة دراية لا رواية، وهي منطلقة من الداخل تقارب الموضوع بلغة الوقائع والحقائق، ولا تحوم حوله من الخارج وتتناوله بمنطق التحليل السياسي ومخرجاته الاجتهادية الظنية البعيدة عن القطع واليقين.


مقاربة صالحي

أقصد به الوزير علي أكبر صالحي الذي تسنّم وزارة الخارجية الإيرانية قرابة ثلاث سنوات (2010 ـ 2013م)، إبّان الإدارة الثانية للرئيس محمود أحمدي نجاد (2005 ـ 2013م)، وكان له دور مميز في تحسين العلاقة الإيرانية مع المجال العربي، ليس فقط من موقعه كوزير، وإنما أيضاً بحكم مؤثرات شخصية كالولادة (في كربلاء) والنشأة (في بغداد) والدراسة (في بيروت) وتحدّثه العربية بطلاقة، وانفتاحه وخلقه الدمث.

ركّز كثيراً في محور الجوار العربي على السعودية، وسعى أن يفتح نافذة لإيران على مصر، وأعطى خصوصية للعلاقة مع سلطنة عمان. كلامه عن العراق إيجابي بالإجمال، إذا غضضنا النظر عن بعض الأخطاء من قبيل قوله إنَّ الموصل كانت جزءاً من إيران (جولة في التأريخ، مذكرات صالحي، ص: 291). مما يذكره أنَّ عراق الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كان أفضل من إيران من جهاتٍ عدّة، لاسيّما على مستوى الخدمات المدينية (المذكرات، ص: 293).

بعد استعراض بعض عناصر العراقة التأريخية، والمرور على تحوّلات السياسة إبّان العقود الأخيرة، يستنتج: «خلاصة القول، كان العراق البلد العربي الثاني بالفكر والثقافة وإنتاج العلم والكتاب؛ يتقدّم أحياناً حتى على مصر» (المصدر، ص: 297). ورغم ما مرّ به البلد من صدمات عنيفة، يسجّل صالحي أنه متفائل بمستقبل واعد للعراق، لاسيّما بإنسانه وثرواته، ويسجّل أنه يودّ أن يرى في شعْبَي البلدين أفقاً لوحدة مشتركة، مشيراً في الثنايا إلى المشكلات السياسية المتمركزة برأيه حول اتفاقية الجزائر والحدود بين البلدين، وهو يكتب نصاً: «لم نستطع حتى الآن تحديد مصير بعض بنود اتفاقية 1975م على نحوٍ كامل. وعندما كنتُ في وزارة الخارجية استطعنا تقريباً حسم قسم من المسائل ذات الصلة بالحدود البرية، لكن لم يزل الملف مفتوحاً في المجال المائي وما يرتبط بمركز التنسيق المشترك بين إيران والعراق، لإدارة شط العرب» قبل أن يعيد الكرّة مجدّداً، بقوله: «في الحصيلة أنا متفائل بمستقبل العراق» (المذكرات، ص: 298).


مقاربة ظريف

يقدّم وزير خارجية إيران الأسبق محمد جواد ظريف رؤية متكاملة أفضل من سلفه صالحي لسياسة بلده الخارجية، لأسباب عدّة يلتقي عندها اختصاصه بالعلاقات الدولية، ودراسته وعيشه وعمله داخل أميركا، ولغته الإنكليزية المتقنة وسفره إلى مختلف بلدان العالم، وعمله المتراكم في الخارجية، الممتدّ زمنياً إلى أربعة عقود وأكثر. لقد وضع حصيلة هذه التجربة في كتابين؛ الأول هو «السيد السفير» والآخر هو مذكراته عن السنوات الثماني لتسنّمه هرم الخارجية (بالفارسية: پاياب شكيبايى). في الأول كان يتبنّى تفسير إشكاليات عمل وزارة الخارجية، على أساس مشكلات عدم معرفة اللغات ولاسيّما الإنجليزية، والجهل بتقنيات العمل الدبلوماسي، والعلاقات الدولية في عصر الحرب الباردة.

لكن في الكتاب الثاني الذي وصفه مرّات أنه بمنزلة وصيته السياسية، فقد استند إلى أنموذج تحليلي أركز من الأول، هي الإشكالية المعرفية والإدراكية التي تعاني منها السياسة الخارجية الإيرانية. على أساس ذلك قدّم مراجعة لسياسة إيران الخارجية إزاء المنطقة والإقليم، وعن محوري الغرب والشرق، بالإضافة إلى دول الجنوب في أفريقيا وأميركا اللاتينية.

بشأن المنطقة ساقته منهجية التحليل المعرفي الإدراكي، إلى أنَّ طغيان العسكرة وارتفاع الوتيرة الأمنية وغلبتها على السياسة الخارجية، هو السبب الرئيس من وراء إشكاليات سياسة إيران الخارجية مع الجوار، والحلّ هو عودة ما يسميه بالتوازن الخماسي الذي أسّس له الدستور، بين العناصر المكوّنة للأمن الوطني.

أما عن العراق فهو يؤكد أهمية ما يسميها العلاقة «المفتاحية» مع هذا البلد، مشيراً إلى الإشكاليات بين الطرفين على صعيد الحدود البرية والمائية، ليعيد المشكلة الأساسية بين البلدين إلى الاختلاف بين رؤيتين تكاملية وندية، تقود الأولى إلى الوئام والانسجام، والثانية إلى التنافس والصراع.


الترانزيت والتجارة

يسجّل ظريف صراحة أنَّ العراق ند لإيران في النفط، وفي خدمات «الترانزيت» وبغداد تفضل خطّ الفاو، تركيا فالبحر الأبيض المتوسط، بدلاً من الخطّ الذي تقترحه إيران: خرمشهر، البصرة، سوريا أو تركيا، فالبحر المتوسط (كتاب ظريف: ص:245). لذلك كله يذكر ظريف أنَّ الواقع الحالي للعلاقات التجارية بين البلدين، المائل بشكلٍ مطلق لصالح إيران، ليس فقط لم يعد يقنع العراق، بل تحوّل إلى إحساس عارم بعدم رضا العراقيين، يمكن أن يهدّد العلاقة في أي وقت: «أكثر هذه الصعوبات هي من جهة أننا ليس لنا في العراق أي مصالح متكافئة. استنتاج العراقيين، أنَّ إيران تساعد العراق غالباً من أجل مصالحها» (المصدر، ص: 244).

يتحدّث ظريف صراحة عن عنصر خلل آخر يضرّ بتوازن العلاقة وجعلها مفيدة للطرفين، هو الإحساس الجذري الضارب لدى العراقيين، بأنَّ: «إيران تصفي معاركها مع السعودية وأميركا على أرض العراق» (المصدر، ص: 235). كما يكرّر مرّات غلبة الجانب العسكري والأمني في إدارة العلاقة مع العراق، بما يؤدّي إلى تقليص مساحة الدبلوماسية وخفض دورها، ليحذّر من أنَّ العسكر والأمنيين لم يفهموا جيداً التكوين النفسي للمجتمع العراقي، وأنَّ هذا: «المجتمع لا يذعن أبداً ولا يتحمّل إيران كقوّة هيمنة داخل البلد» (المصدر، ص: 236).

ضمن رؤيته التقويمية لسياسة بلده إزاء العراق، ينصح ظريف مسؤولي بلده بعدم إثارة ملف تعويضات الحرب الإيرانية ـ العراقية، لأنَّ: «ادّعاءات تعويضات الحرب لن يكون لها أي سند قانوني» (المصدر، ص: 247). وفي شقٍ آخر يحذّر صراحة من إمكان تجدّد النزاع بين البلدين حول الحدود وشطّ العرب، ويرى الحلّ متمثلاً: «بالتنفيذ الكامل لاتفاقية 1975م، لأنَّ ذلك ينفع إيران والعراق»، متهماً مرّات عدّة «البيروقراطية العراقية» بأنها من يعوّق عملية التنفيذ الكامل (المصدر، 247).

عند هذه النقطة نجد ظريف يلتقي مع سلفه صالحي، في إشكالية اتفاقية الجزائر ومشكلة شط العرب.


لحظة پزشكيان

صعود پزشكيان إلى الرئاسة جاء في نطاق عملية تكييف إيرانية لمراجعات دقيقة في الداخل، يعقبها تغييرات في السياسة الخارجية. وهذه لحظة مواتية للعراق الذي سجّل مبادرة مهمّة في أن يكون هو المحطة الأولى للرئيس الإيراني من بين بقية دول الجوار والعالم، مهما كانت المبرّرات الإيرانية لهذه الزيارة.

تواترت التصريحات قبل الزيارة أنَّ الرئيس الزائر والوفد الكبير المرافق؛ يحمل بمعيته ملفات مهمة في الأمن والاقتصاد. وبتجريد الألفاظ عن عمومياتها، فإنَّ پزشكيان قدم إلى بغداد بملفين أساسيين يسبقان غيرهما؛ هما الحدود، ومستحقات إيران من الغاز والكهرباء بالعملات الصعبة. والمهمّ بالنسبة لبلدنا أن يخرج عن حالة التردّد و«اللاعلاقة» ويدخل في صميم «العلاقة» الفاعلة بكلّ ما لها وعليها، وبجميع مكاسبها وأضرارها. وهذا الكلام ينطبق على العلاقة مع إيران كما مع غيرها.

قد يمكن القول في نطاق العلاقة مع إيران، في الأقلّ في ضوء ما مرّ معنا من مقاربات، إنَّ المقاربة العراقية لتكييف هذه العلاقة هي الغائبة، ربما بفعل التردّد الناشئ بدوره من وطأة الملفات التي تركها النظام المباد. لكن هذا هو قدر بغداد والدبلوماسية العراقية في اللحظة الحاضرة، إذ ينبغي أن تواجه ملفات العلاقة مع الآخر مهما كانت جسيمة، كما فعلت مع الكويت والجوار العربي وتركيا وما سوى ذلك.

وبشأن الملفات مع إيران ولاسيّما ما يرتبط بمعاهدة 1975م، والمستحقات المترتّبة على الغاز والكهرباء، وتنظيم ملف الزيارات وغيرها، هناك إطار ناظم يتمثل بشقّين من الصعب الاختلاف عليهما؛ الأول هو حسم هذه الملفات من خلال الإرادة الوطنية الجامعة وليس من قِبل السلطة التنفيذية وحدها، فضلاً عن أي جهاز منفرد من أجهزتها، ليكون موقفها أقوى. والشقّ الآخر هو إحالة كلّ ملف لأهل الاختصاص، وإعطاؤهم الفرصة الكاملة في الدراسة والبحث وإعداد الأجوبة وبيان الحلول، وما زلتُ أذكر أكثر من إشارة لظريف عن إمكانيات البيروقراطية العراقية المختصة، وقوله تحديداً إبّان مفاوضات تطبيق القرار (598): «العراقيون مقتدرون جداً في القانون الدولي»، وهذا الاقتدار بلا شك، إلى جوار الإرادة الوطنية الجامعة، هما في طليعة مفاتيح العلاقات الفاعلة مع الإقليم والعالم.