إشكاليَّةُ التأثّر بالمقروء

ثقافة 2024/09/17
...

 محمد صابر عبيد

يتأثّر القارئ عادةً بما يقرأ حين تكون القراءة عنده أكبر وأوسع وأعمق من مجرّد تزجية الوقت، وحين تكون هذه القراءة أشبه بمصير إنسانيّ مهمّ لا يمكن تفاديه بما ينطوي عليه من كثافة واشتباك وتداخل وتموّج واندماج، بحيث لا يعود القارئ قادراً على الانفكاك من قوّة هيمنة هذا الفضاء على مدركاته وحواسّه وأدواته كلّها، عندما تكون قراءته نشاطاً معرفيّاً خلّاقاً يتدخّل في صُلب التشكيل الثقافيّ والفكريّ له، ويسهم في صياغة أنموذجه ورؤيته وشخصيّته وهويّته؛ ولا سيّما حين يتحوّل إلى كاتب يمارس نشاطاً معيّناً من أنشطة الكتابة الإبداعيّة أو المعرفيّة، ويبدأ هنا سؤال التأثّر بهذا المقروء وكيفيّة معالجته إذ هي الإشكاليّة الأكبر التي قد لا ينجو منها أحد بوصفها نتيجة طبيعيّة وأصيلة، لكنّها بالتأكيد تخضع لأكثر من أسلوب معالجة لأجل الوصول إلى الصوت الكتابيّ الخاصّ، بعيداً عن التأثيرات والمؤثّرات القادمة بقوّة من خزين المقروء بكلِّ كثافته وتراكمه وضغطه 

وصيرورته.

لا بدَّ للكاتب الحقيقيّ من التعامل مع معادلة المخزون القرائيّ والنشاط الكتابيّ الإبداعيّ بأعلى درجات الوعي والمعرفة، ولعلّ من أولى أولويّات هذا التعامل هو توفير القدرة الذاتيّة الخلّاقة على هضم المقروء بأقصى ما تكون عليه فعاليّة الهضم، والعمل على تجاوز هذا المقروء بكليّته والسعي ذاتيّاً إلى التفوّق عليه وتجاوزه، ومن ثمَّ التطلّع نحو فضاءٍ كتابيّ إبداعيّ يكاد يكون صافياً ونقيّاً وشديد البياض والصحو، كي تكون الرؤية واضحة والشخصيَّة ظاهرة والأسلوب جديداً ومبتكَراً؛ بما يسمح بولادة كاتب جديد عابر للتأثيرات والمؤثرات القرائيّة السابقة بعد هضمها وعصرها وتقطير طاقاتها المعرفيّة، ومن ثمَّ الانفتاح على فضائه الإبداعيّ برحابة وسلامة وطمأنينة تتيح له كتابة نصّه بمزاجٍ خاصٍّ لا ينتمي إلّا إليه.

هل يمكن إزاحة التأثير وتنحيته على نحو كليّ وشامل ومطلق؟، بالتأكيد سيكون الجواب بالنفي قطعاً؛ لأنَّ عدم وجود التأثير إنّما يعني أنَّ القراءة لم تستطع أن تفعل فعلها المطلوب في القارئ، لكنّ التأثير ينبغي أن يكون عاملاً في تخصيب الرؤية وتطويرها عن طريق ترك بؤر توليد بوسعها إنتاج أفكار وقيم جديدة، لا تسقط في فخّ التقليد بل تنفتح على مساحات كتابيّة جديدة تفيد من طاقات المخزون القرائيّ، وتنطلق منها نحو فضاء الابتكار والتجديد والتحديث لبلوغ حالة إبداعيَّة هاضمة لقيم الماضي، ومندمجة بقيم الحاضر، ومستشرفة لأفق المستقبل، بأسلوب نوعيّ لا يشبه غيره باحثاً عن أعلى درجات الخصوصيّة والفرادة، في عملية بعث جديد لعالم المقروء وهو يتطلّع إلى مسارات أخرى عابرة للسائد والمألوف، وقادرة على تمثيل الرؤية الكتابيَّة بجوّ طريف لا يمتّ بصلة أسلوبيّة وتعبيريّة وتشكيليّة إلى ما سبق التعرّف عليه قرائيّاً، والدخول في حياة أخرى نابعة من حياة القراءة نحو حياة الكتابة، بكلّ ما في مفردة "حياة" من ثراء وغنى ودلالة ومعنى وعطاء وتجربة وتمثّل 

وإنتاج.

تعود فعالية القراءة كي تتحوّل إلى حياة نحو الطريقة المثلى التي تتحقّق فيها مقاصد القراءة بالمستوى المطلوب المثاليّ، وهي الطريقة التي تجعل من فعل القراءة فعل متعة لا تدانيها متعة بما يرتفع بشأن فكرة الإمتاع إلى أعلى درجات الدهشة، ومن دون دهشه حقيقيّة تستمرّ من بداية القراءة حتّى نهايتها فإنّ القارئ لا يحصل على إنجاز قرائيّ يُعتدّ به، وستكون فكرة تزجية الوقت هي الأقرب بوصفها النتيجة المنطقيّة لقراءة لا تتعدّى المرور السريع على مساحة المقروء، بما لا يتيح أيّ فرصة للاكتشاف تجعل القارئ سعيداً بما قرأ أولاً وبما اكتشف ثانياً، بمعنى أنّ السعادة تأتي مرافقة لحالة الدهشة ومصاحبة لحالة الكشف، على نحو يرتقي بالفعل القرائيّ إلى أعلى مرتبة ممكنة تجعل هذا الفعل فعلاً استثنائيّاً 

فريداً.

تشكّل القراءة كي تكون حياةً على هذا النحو مورداً رئيساً من موارد الغذاء الروحيّ والمعرفيّ، بحيث تكون أحد أهم وأبرز المصادر التي تمكّن صاحب الموهبة الكتابيّة من المضي في طريق الكتابة بقوّة واقتدار، لأنّ الموهبة مهما كانت عظيمة فلا يسعها الأخذ بيد الكاتب كي تجعل منه شخصيّة كتابيّة في الصفّ الأوّل من الكتّاب، فالموهبة طفل جميل وحيويّ يحتاج إلى تربية مستمرّة ودائمة كي تنمو نموّاً سويّاً وصحيحاً ومنتِجاً، وتأتي القراءة بوصفها المربّي الأوّل والأهمّ في هذه التنمية والتطوير والتنوير، إذ سرعان ما تتلقّف أيّ معرفة جديدة ناضجة كي تضمّها إلى رصيدها وتبدأ العمل على هضمها فوراً، كي تصبح جزءاً أصيلاً من المرجعيّة الثقافيّة والفكريّة والمعرفيّة القادرة على إعادة إنتاج الرؤية على وفق مسار جديد، يحتوي على عناصر الابتكار والحداثة بأسلوب شديد الخصوصيّة والتميّز

والفرادة.

تسهم القراءة في مضاعفة المعلومات التي يجب أن تكون المادّة الأولى للشروع في فعاليّة الكتابة، لأنّها الظهير المعرفيّ الأقدر على تموين الرؤية الكتابيّة برافدٍ أساسيٍّ لا ينضب؛ يساعد الكاتب في التحرّك بحريّة ومرونة وتعدّد وتنوّع داخل الفضاء العام للرؤية المراد تحويلها إلى عمل كتابيّ، ومن دونها تبقى الموهبة تدور في حلقة مفرغة بعد أن تستنفد كلّ ما لديها من طاقة معلوماتيّة تخفق في تغذية أدوات الكتابة بالجديد، وعندها تموت الموهبة حتماً وتتحوّل إلى مرحلة تقليد نفسها من غير الانتقال إلى مرحلة جديدة أكثر تطوراً، بالمعنى الذي يُفيد بأنَّ على الكاتب عدم التوقّف عن القراءة مطلقاً؛ بما يحوّل القراءة إلى سلوك يوميّ قارّ، لا يتوقّف أبداً مهما كانت الأسباب حتّى لو تقف الفعل الكتابيّ ردحاً من الزمن، فالقراءة ثمّ القراءة ثمّ القراءة؛ ولا بأس بعد ذلك بالكتابة في سبيل بلوغ الطبقة التي تكون فيها الكتابة خصبة، وقادرة على أن تكوّن ماكنة عمل تسير في الطريق الصحيحة على المستويات 

كافّة.