في أواخر تسعينيات القرن الماضي أو ربما في سنة 2000، جمعني لقاء أول مع وجيه عباس في قاعة حوار التي كانت ملتقى للفنانين التشكيلين والأدباء والمثقفين، كنتُ أجلسُ وحيدا عند طاولة صغيرة، شاركني بها ضيفنا الكريم وجيه عباس، ما زلت أتذكر وجهه الأسمر الخجول، القادم من جنوب القلب، في وقتها كان أبو علي يكتب أعمدة ساخرة أثارت انتباه الوسطين الأدبي والصحفي، وقبل ذلك كانت قصائده المكتوبة بالشكل العمودي، قد انتشرت بين الشعراء والنقاد، وراحت تتسلل خفية ويتم تداولها بين الأدباء، وأخذ بعضهم يطرح اسم وجيه عباس كشاعر عموديّ بارع، وراح اسمه يتقافز بين الأسماع الأدبية بما يشبه السرية أو التوجس، أتذكر حين سألني صديقي وجيه: هل قرأت عمودي الساخر عن الباذنجان والطماطم وهل وصلتك الأفكار التي مرَّرتها فيه، أجبته بالإيجاب المشفوع بالإعجاب، فهو موهبة أفصحت عن نفسها بهدوء مقرون بالأصالة، لكن الغريب أن شاعرَنا لم يكتفِ ببراعته الشعرية، ولا بأعمدته الصحفية الساخرة، بل أفصح عن قدرة لا تُضاهى في الإعلامي التلفازي الساخر، فقد ظهرت مواهبه دفعة واحدة، ليتبوَّأ منبرا إعلاميا ساخراً لا يُضاهى.
لكن يبقى وجيه عباس الشاعر هو الأهم والأبقى والأكثر تميزا، فلم تغب عنه القصيدة على الرغم من انشغاله بالإعلام اللاذع، وتعريته وكشفه للكثير من المسكوت عنه بشجاعة يعرفها كل من سمع أو قرأ أو تابع وجيه عباس، لكن الشاعر فيه ظلّ الأعلى والأظهر والأقوى في الإفصاح عن مواهبه، ذلك أن وجيه عباس (شاعر لا يشبه الشعراء، ينحت قصيدته بإزميل الألم المعنّى، ويثريها بمصابيح البلاغة المضيئة والمحبة الأثيرة، إنه مهموم بالقصيدة بانتمائها الحصري للإبداع، وغير عابئ بالصنعة أو ما يسمى بنظم الشعر الذي يجيده النظّامون ممن لا علاقة لهم بالإبداع، فهم ليسوا أكثر من حرفيين يجيدون صنعة أو حرفة، هم يقولون عنها بأنها شعر، لكنها في الحقيقة لا تختلف عن مهنة النجار أو البنّاء أو غيرهما، وجيه عباس له لغته التي لا يمكن أن تتشابه مع غيرها، ليس بالأبجدية أو أشكال الحروف، وإنما بالصياغة التي تُشحَن بطاقة شعرية أخاذة لا نجدها إلا عند الشعراء من ذوي المواهب الأصيلة، وهناك نقطة أخرى لابد من الإشارة إليها، وهي تتعلق بموسيقى القصيدة أو إيقاعها وبالأدق البحر الذي تُنظَم على إيقاعه، فإننا لا نخطئ إذا قلنا أن وجيه عباس لا يعبأ كثيرا ببحور الفراهيدي على الرغم من أنه التزم في قصائده بهذه البحور، لكن النقطة الأهم هنا أن قصيدة وجيه هي التي تختار أو تنتقي أو تفرض البحر الذي سوف تُنظَم به، وهذه ميزة المواهب الشعرية المتميزة التي تُعنى بالسياق الإبداعي للقصيدة، ولا يضيرها أن تكتب وفق هذا الإيقاع أو ذاك، الفرق بين وجيه وآخرين، كما وصلني من قصائده، أنه ينشغل بإبداع القصيدة قبل بحرها وموسيقاها، وهنا ميزة مهمة أدّعي أنني اكتشفتها في قصائد وجيه، فهو شاعر مغرم بقصائده كلّها، لذلك يتماهى معها تماهيا كلّيّا، فيصح القول هنا، أنّ وجيهاً هو القصيدة وأن القصيدة التي يكتبها هي وجيه في تشابه وتماثل لا يتحقق من وجهة نظري إلا في المواهب المائزة، تلك التي يقول عنها كاتب سيرة الشاعر (ادغار آل نبو)، إن مواهبه من النوع الذي لا يسمح له بالاطمئنان أو الراحة.