هل يمكن ابتكار لغاتٍ جديدة للأدب؟

ثقافة 2024/10/02
...

صفاء ذياب

منذ أن طرح رومان ياكوبسن تساؤله (ما الذي يجعل من رسالة لفظية أثراً فنياً؟)، انطلق أغلب النقّاد في تبنّي فكرة الشعرية كخطاب ولغة للأدب… مفهوم الشعرية هذا كان منطلقاً لنقّاد آخرين منهم تزفيتان تودوروف في كتابيه (الشعرية) و(مفهوم الأدب)، وجان كوهين في كتابيه (بنية اللغة العليا) طارحاً مفهوم الانزياح كأساس للشعرية، ليأتي بعدهما كمال أبو ديب ويصدر كتابه (في الشعرية) الذي قدّم خلاله مفهومه (الفجوة- مسافة التوتر)، وغيرهما الكثير.

في حين ذهب آخرون إلى أقدم من ذلك باحثين في كتب أرسطو والجرجاني وحازم القرطاجني وغيرهم، ليؤسّسوا لمفهوم الأدب ولغته، غير أنَّ هناك من يرى أنَّ ما تمَّ طرحه خلال القرون السابقة، ومن ثمَّ العقود القريبة، يستند إلى البحث عن لغة أدبية لا تخرج عن الطروحات البلاغية القديمة، حتى في بحثهم عن الطروحات الأخيرة في ما يعرف بـ(البلاغة الجديدة) ليخرجوا لنا بمصطلحات مثل بلاغة الجمهور وغيره. هؤلاء الباحثون حاولوا دراسة اللغة الأدبية ضمن سياقها الزمني، إلا أنَّ هناك من يرى أنَّ لغة الشعر اختلفت، لاسيّما منذ تسعينيات القرن الماضي، مستندين بذلك إلى ما يعرف بالقصيدة اليومية وطروحات أخرى، تحيلنا كلّها إلى البحث عن لغات جديدة يقدّم بها الأدب.
ومن ثمَّ، علينا البحث عن شكل الأدب ولغاته ضمن التحوّلات الجديدة بعد التقنيات الهائلة التي غيّرت الكثير من المفاهيم، لاسيّما الذكاء الاصطناعي الذي بدأ يدخل في حيثيات كل شيء، ومنها الأدب في الرواية والقصة والشعر والمقالة وغيرها.
إلَّا أنَّ مرور ما يقارب القرن على تساؤل ياكوبسن وتحولات مفهوم الأدب جعلتنا نطرح هذا التساؤل: هل ما زالت اللغة التي يكتب فيها الأدب واحدة؟ أو أنَّ هناك لغات عدّة للأدب؟
اللغة العالية
يقدم الأستاذ الدكتور فاخر الياسري؛ أستاذ النحو في كلية التربية بجامعة البصرة، طرحه مستنداً إلى التراث اللغوي العربي، مبيناً أنَّ لدينا في النص الإبداعي ما يعرف باللغة العالية التي تعتمد الاستعارات والتشبيهات والكنايات التي وظيفتها التوصيل بأساليب لغوية معتبرة متينة وموحية حتَّى يطلق عليها باللغة الشاعرة، وهذه اللغة العالية يطلق عليها بالفصحى، ونحن ما نزال نفهم ونتذوّق الأعمال الأدبية المكتوبة باللغة العالية أو الفصحى من العصر الجاهلي والأموي كالأمثال ومن العصر العباسي البخلاء للجاحظ وما إلى ذلك من الآثار الكثيرة التي تركها أدب تلك العصور على الرغم ممَّا حال بيننا وبين تلك الإبداعات من أزمنة طويلة واختلافات في الحياة والعقلية والمفاهيم. وجدير بالذكر أنَّ الإنكليز اليوم لا يفهمون لغة جوسر وشكسبير وغيرهما من كبار الكتّاب القدماء إلَّا بالرجوع إلى المعاجم عدَّة مرّات على الرغم من حداثة اللغة الإنكليزية.
وعليه لو كتب الأديب بالعامية، لما وصلت كتاباته خارج حدود لهجته، وفي الوقت نفسه لو كتب بالفصحى أو اللغة العالية الجمالية لاقتصرت آفاقه بين أوساط المثقفين التي قلّما تطاولت إليه عامّة الناس، وعليه ذهب أصحاب الإبداع في القضية إلى مذهبين: مذهب ينكر استعمال اللغة العامية في النسيج الأدبي أو قل في الأدب والإبداع، وآخر يؤيّده ويستحسنه، فتقطّع الأمر بينهما وكلُّ فريق بما لديهم فرحون.
ولهذا يشير أمير الشعراء شوقي قائلاً: لا أخاف على اللغة العربية إلَّا من بيرم التونسي لأنَّه يكتب بالعامية. وقال طه حسين: أخشى على الفصحى من عامّية بيرم.
ومن الحقيقة التي يتوصّل إليها المتأمّل في تاريخ الأدب العربي على وجه التحديد أنَّ الأعمال الأدبية المدوّنة باللغة العامية لا يكتب لها البقاء بعد الزمن الذي كتبت فيه ولا يكتب لها القبول على نطاق واسع إلَّا على مستوى الشعب الذي يتحدّث بتلك اللغة العامية...
كما أنَّ اللغة التي يكتب بها الأدب باللغة العالية، وهناك عالية جداً جداً تمثّل الفوق البلاغي والجمالي والشعرية ونسمّيها بالفصحى العالية، وهناك الفصيحة وهي أدنى درجة منها، وهي ما تسمّى باللغة الوسطى وهي بين العالية الفصحى الفنية وبين العامية.
سؤال الأدب
ويرى الدكتور ضياء الثامري؛ أستاذ النقد في كلية الآداب بجامعة البصرة، أنَّه في خضمِّ التغيّرات المتسارعة في عموم تفاصيل الحياة وسبل التعبير عن الحاجات الإنسانية أضحت الأسئلة نوعاً من الوقوف المؤقّت، أو هي بمثابة محطّات توقّف لأجل معاينة المسار المحدّد، وسؤال الأدب من أكثر الأسئلة ارتحالاً بسبب التغيّرات السريعة في المشهد، تلك التغيّرات التي تطمح إلى اللحاق بركب الحياة الذي تبدّل إيقاعه تماماً، ولذلك تقلّصت الفروقات إلى حدٍّ كبير بين الشعر في صورته الأولى والنثر حتَّى ذهب من ذهب إلى الحديث عن طمس الأجناس الأدبية.
إنَّ تقليص الحدود- التي هي افتراضية في حقيقتها- أمر إيجابي، لكنَّني لا أميل إلى طمسها كلّياً لأنَّ ذلك سوف يذهب بخصوصية المتعة التي تمنحها كلُّ لغة، إنَّ ما تمنحه مهيمنات لغة الشعر لا يمكن للغة النثر أن تمنحه، وهكذا فإنَّ السؤال يرجع بنا إلى ماهيّة الأدب ووظيفته كما حدّدها الأقدمون، إنَّ الأدب رسالة تتحقّق باشتراطات محدّدة لا يمكن تجاهلها مهما ارتفعت طموحاتنا في المغايرة، الأدب حسب لغة العصر صناعة متعدّدة الأشكال ولكنَّ المبدأ واحد، وهذا المبدأ هو أن تكون هناك لغة أدبية ليس بالضرورة أن تكون على شكل واحد، المهم أن تحقّق تلك اللغة خصوصيتها أولاً، وتكون قادرة على التعبير عن الحالة المعاصرة التي لم تعد تشبه أو تماثل الحالات التي انبثقت من أجلها المقولات والأسئلة الأولى.
آليات متنوّعة
في حين يتساءل الدكتور عبد الستار جبر، أستاذ النقد في كلية الإمام الكاظم: ماذا يعني إعادة طرح تساؤل رومان ياكوبسن الشهير بعد ما يقرب من قرن تقريباً؟ وقد أجاب عنه حين أسند هذه المهمة إلى وظيفة أدبية- فنية أسماها بالشعرية، تقوم بإكساب النص صفة إثارة الانتباه إلى ذاته، إلى شكله وبنائه وأسلوبه، فتميّزه من غيره من النصوص؟!
هل تغيّرت هذه الوظيفة أو تتغيّر بمرور الزمن؟ أو تبقى ثابتة بوصفها آلية تأليفية قارّة أو أشبه بقانون حتمي كالجاذبية، تُخضع النصوص الأدبية إلى اشتراطاتها الفنية؟ أي لا يكون الأدب أدباً حتَّى يكتسب هذه الوظيفة، فتصبح قانونه التأليفي الخاص. ولكن إن كانت هي كذلك من حيث الثبات الأجناسي في تمييز الأدب من غيره، فكيف يمكن تمييز النصوص الأدبية نفسها من بعضها؟
ويضيف جبر: الشعرية كوظيفة فنّية تبقى ثابتة كآلية تأليفية، لكنَّها تتنوّع إلى ما لا نهاية في كيفية هذا التأليف؛ مع اختلاف الأساليب والبناء ومن ثمَّ الشكل، فتمنح لكلِّ نص أدبي فرادته عن غيره، وبذا تختلف من حيث الدرجة في مستوياتها الفنية، على مقاييس الإبداع والجمالية؛ من الأعلى إلى الأدنى، وحتَّى في مستويات إخفاقها. وتظهر هذه التفاوتات الشعرية مع اختلاف الثقافات واللغات والعصور عبر التاريخ، وتسهم التلاقحات والتناصات الأدبية والثقافية، بشكل عام، في إثرائها وتمايزها.
ومن ثم فإنَّ إعادة طرح التساؤل الياكوبسني عن الشعرية، ينبغي أن يعيد الجدل ليس في أصل هذه الوظيفة وطبيعتها ومهمتها التأليفية، بل في مراجعة آلياتها المتنوّعة على مستوى الأسلوب والبناء والشكل والتقنيات الفنّية؛ لتتبع اتجاهاتها التأليفية في النتاجات الأدبية المحلّية على وجه الخصوص.
فلك اللغة
ويشير الدكتور خالد خليل هادي، أستاذ اللسانيات في جامعة بغداد، إلى أنَّ ما يُميّز أيّة نظرية حيّة هي قابلياتها للتكذيب والمراجعة، ولما كان رومان ياكبسن قد طرح رؤيته لما يميّز طبيعة ووظائف اللغة في دراساته المعروفة هو تأكيده على موضوعة وظيفة اللغة، وهو سؤال مركزي في أدبيات اللسانيات الوظيفية، الذي امتدّ أثره ليشمل الأدب بوصفه معطى لغوياً.
لقد كانت مقولة الشعرية واحدة من أبرز إسهامات ياكوبسن، من جهة التأسيس والتنظير والممارسة، على الرغم من وجود إرهاصات له منذ كتابات أرسطو في فن الشعر.
تنصّ الشعرية في محتواها على سؤال مركزي، هو ما الذي يجعل من النص (شعراً كان أم نثراً) ذا أثر ورؤية يميّزه من غيره من النصوص، أي أنَّه يدرس الخطاب الأدبي بمختلف تجلّياته من طريق تركيزها على مخالفتها للغة المعيار.
لقد خضعت مقولات وظائف اللغة التي صاغها ياكوبسن إلى مراجعات، وحظيت كلّها بانتقادات؛ لأنَّه تعامل مع اللغة بوصفها كلاً ثابتاً، فالمرجعية اللسانية التي صاغت فهم ياكوبسن عن الشعرية جعلتها تدرس النص دراسة بنيوية بمعزل عن الأشياء الخارجية، عبر قراءة مستقلّة في ذاتها ومنطوية على نفسها، فشعرية النص يحدّدها البناء اللغوي، وهو الذي يعطي للنصّ أدبيته.
وبيّن أنَّ هذا الفهم خضع إلى مراجعات غربية وحتَّى عربية سعت إلى تقديم رؤيتها الخاصة بالمصطلح، من بينهم مثلاً جان كوهين الذي رأى أنَّ الشعرية تتحقّق عبر مقولة الانزياح، وإقامة علاقة مختلفة ومبتكرة بين البنيات اللغوية. فضلاً عن أنَّه قصر مصطلح الشعرية على الشعر وحده، وقال إنَّ الشعرية علمٌ موضوعه الشعر، وهو تصوّر جعل من الشعرية علماً له موضوعه المحدّد والمتجلّي بالشعر وحده، الذي نفسه انزياح عن النثر وخروج على الكلام العادي.
بعد ذلك قدّم تودوروف سؤاله المركزي: ما الأدب؟ الذي حاول فيه أن يبحث عن الأدبيّة في الخطاب الأدبي، بوصفه خطاباً متميزاً من غيره من الخطابات السياسية والاجتماعية والفلسفية.
يُمكن القول إنَّ طبيعة العلاقة التي تحكم البنيات اللغوية داخل النص، هي المحدّد في تحقيق أدبيته أو شعريته، وهو ما يجعل النص مفارقاً للغة المعيار أو النموذج، وفي هذا الصدد يقول كمال أبو ديب إنَّ “الشعرية ليست خصيصة في الأشياء ذاتها، بل في تموضع الأشياء في فضاء من العلاقات” وواضح النزعة البنيوية في تفسير أبو ديب للشعرية.
فالقول بوجود لغات مختلفة في كتابة الأدب تكمن وتدور في فلك اللغة، فهي التي تحدّد هويّة الأديب وهويّة نصّه التي تجعله بالتالي مختلفاً عن غيره.
ساحة للتجريب
ويختتم الناقد أمجد نجم الزيدي حديثنا بقوله إنَّ مفهوم الشعرية يرتبط عند رومان ياكوبسن بفكرة أنَّ للأدب لغته الخاصة التي تختلف عن تلك التي نستخدمها في التواصل اليومي، وهي جزء من نظريته بشأن وظائف اللغة؛ إذ عدَّ أنَّ للغة الأدبية خاصية مميّزة تجعلها فناً، وهو ما أطلق عليه بالوظيفة الشعرية، حيث يتمُّ التركيز بصورة أساسية على شكل اللغة، وليس محتواها أو الرسالة التي تحملها، وما يميّز النص الأدبي ليس معناه فقط، بل الطريقة التي ينقل بها هذا المعنى، ولكن ومع مرور هذا الزمن الطويل على تلك الآراء بدأت النظرة إلى النص الأدبي ولغته تتغيّر؛ في ضوء التحوّلات الكبيرة التي مرَّ بها العالم، ولاسيّما تلك التي جاءت مع الحداثة وما بعدها، فلم يعد الأدب محصوراً بلغة واحدة أو نمط محدّد من الكتابة، وربَّما جاء هذا تأثّراً بالتعدّدية التي نادت بها ما بعد الحداثة، إذ أصبحت النصوص الأدبية تتداخل مع أجناس أخرى كالسينما والمسرح أو وسائل أخرى للتعبير كلغات البرمجة في النصوص الرقمية.. وغيرها، الذي أدّى إلى ظهور لغات جديدة تتخطّى الكلمة المكتوبة وحال دون أن يختزل النص الأدبي في قالب لغوي أو أسلوبي واحد، في ظلِّ ما يمرُّ به العالم من تعقيدات، فلم يعد ينظر إلى الأدب بوصفه مجرّد نص شعري أو بلاغي، بل هو جزء من سياقات ثقافية واجتماعية؛ وهو وسيلة للتفاعل مع الواقع والتجربة الإنسانية، حيث يجمع داخله عناصر مختلفة تتخطّى المفهوم التقليدي للشعرية، إذ تم تجاوز مفهوم اللغة الأدبية (النقية)- إن جاز لي القول- إلى مفهوم آخر يستند إلى التداخل والتعدد من خلال التناص والبينية، لذلك فبإمكاننا القول إنَّ النص الأدبي اليوم لم يعد محصوراً بجماليات اللغة الشعرية؛ بل أصبح ساحة للتجريب والانفتاح على مختلف الأشكال والخطابات.