الفهم المعاصر لحديث ردّ الشمس
شاكر الغزي
حادثة ردّ الشمس للإمام علي عليه السلام من كراماته المشهورة، والبعض يعدّها معجزة للنبيّ صلى الله عليه وآله. ذكروا أنَّ الشمس رُدّت ليوشع بن نون، وصيّ النبيّ موسى، مرَّةً حين شغله القتال عن الصلاة، ورُدّت لعليّ عليه السلام ستين مرّة بحسب الشيخ كاشف الغطاء. وعدَّ الحسن البصري أكثر من عشرين. وعن الإمام الباقر أنّها رُدّت عليه ثلاث مرّات: مرّة بالمدينة، ومرتين بالعراق. وأفصح ابن عبّاس عن مرّتين فقط.
والمشهور أنّها رُدّت عليه ببابل، وهناك مزار معروف بمقام ردّ الشمس في الشمال الغربي لمدينة الحلّة.
وقد دار كلام كثير حول الحديث والحادثة، فنفى المُنكِرون الأربعة: ابن حزم، وابن الجَوزي، وابن تيمية، وابن كثير. وأثبت كثيرون كالطحاوي، والقاضي عِياض، والهيثمي، وأبو زرعة العراقي، وابن حجر العسقلاني، والسَّخاوي، والسيوطيّ.
وبتجاوز صحة الأسانيد أو سقم بعضها، فالحديث رواه ثلاثة عشر صحابياً، وقد أورد الشيخ الأميني في الجزء الثالث من موسوعة الغدير، ثلاثة وأربعين من مصادر العامة تروي الحديث، فضلاً عن تسعة من أعلام الحُفَّاظ ألّفوا كتباً ورسائل مفردة في الحادثة.
شخصياً، أعتقد بوقوع هذه الحادثة؛ لكثرة الأحاديث المروية بغضّ النظر عن التباين في ألفاظها، وأوقاتها، وأسانيدها.
مؤخَّراً، وبعد الكشوفات العلمية التي نتداولها اليوم كأبجديات في الفلك والجغرافيا، صارت إعادة النظر في هذه الحادثة ضرورة ملحّة؛ ذلك أنّ أطفال المدارس يعرفون جيّداً أنّ ظاهرة تعاقب الليل والنهار تنتج عن حركة الأرض الدورانية حول نفسها، لا عن حركة الشمس التي تُعد ثابتةً بالنسبة إلى الأرض في مركز المجموعة الشمسية.
وهنا انقسم المتأخّرون إلى قسمين: قسم يشكّك في الحادثة ويُنكرها علمياً، ضارباً بالروايات ــ وإن كثُرت ــ عرض الجدار. وقسم يُثبت الحادثة تاريخياً استناداً إلى الدليل الروائيّ المتواتر، ولكنّه يبحث عن تأويل وفهم ينسجمان مع بديهيات هذا العصر.
بدءاً، نُذكّر بأنّ استعمال لفظي الشروق والغروب هو تعبير مجازيّ؛ فالشمس ثابتة في كبد السماء البعيدة لا تذهب ولا تجيء؛ وبالتالي فشروق الشمس أو غروبها يُراد بهما التعبير عن حركة الأرض أو دورانها حول محورها بعكس اتجاه عقارب الساعة. وعليه، فلا تفسير لعبارة (ردّ الشمس) التراثية سوى أنّها تعني ارتداد حركة الأرض بشكل معاكس، أي دورانها حول نفسها باتجاه عقارب الساعة! وهذا أمر غير ممكنٍ في حدّ ذاته؛ إذ ثمّة سبب كونيّ يجعل الأرض تدور بهذه الطريقة، وذاك السبب وإن كان مجهولاً، إلّا أنه لا يخرج عن تأثير الفيض المغناطيسي أو الزخم الزاويّ الناشئ عن الحركة الأولى أو عن جاذبية القمر كما يقولون، وأزعم أنّ سبب دوران الأرض هو توزيع مراكز الثقل في جسم الأرض مضافاً إلى ميلان محورها؛ فتتحرك بدءاً بفعل السقوط الحرّ ثمّ تستمر بالدوران حول المحور بتأثير عزم القصور الذاتي، وأجزم بأنّه لو عُمل مجسَّم يُحاكي توزيع الأثقال الأرضية تماماً، ثمّ وضع في مكعّب مفرّغ فإنّه سيستمرّ بالدوران حول محور مائل بنفس درجة ميلان المحور الأرضيّ، ولن يتوقّف.
وارتداد حركة الأرض ممتنع ــ إن لم يكن مستحيلاً ــ فلكياً، ولا يقرّ به حتّى مبتدئو الفيزياء النظرية.
ولم يحدّثنا الفلكيّون أنّ الأرض دارت بشكل معاكس لحركتها المعهودة منذ أن تحرَّكت أول مرَّة قبل أكثر من أربعة مليارات سنة، بل حدّثونا عن الاختلال الكونيّ والمناخيّ الهائل الذي ينتج عن ذلك. وأحد التفسيرات العلمية لحدوث القيامة هو ارتداد حركة الأرض بشكل عكسيّ، وهو ما عبّرت عنه الأحاديث والأخبار بطلوع الشمس من مغربها، وعدّته من أشراط الساعة.
وهذا سبب مقنع لردّ هذه الحادثة إذا أُخذ بظاهر لفظ الحديث، غير أنّ مَن يُجِدُّ البحث لن يعدم تأويلاً تُساعد عليه الأخبار، وتُوافق عليه أبجديات المنطق والعلوم الحديثة.
يُلاحظ أنَّ ألفاظ الروايات لم تقف عند تعبير (ردِّ الشمس) فقط، فثمّة اصطلاح آخر، وهو (حبس الشمس)، وثمّة تأويل قديم ذكره يوسف بن فرغلي (سبط ابن الجَوزي) في تذكرته، وهو أوّلُ من أوَّلَ حديث ردّ الشمس في ما نعلم وحاول تفسيره علمياً، إلّا إذا قيل إنّ عبارة (حبس الشمس) هي تأويل من الرواة والشُرَّاح، وليست من لفظ الحديث الأصليّ.
والحبس معناه التوقّف، والتعبير التراثيّ (حبس الشمس) في فهمنا المعاصر يعني: أنّ الأرض توقّفت تماماً عن الحركة. والقول بالحبس يدلُّ على أنَّ هناك فسحة قليلة من ضوء النهار ولمّا يحدث الغروب بعد، ولكنّها لا تكفي لأداء الصلاة؛ ممّا اقتضى إطالة هذه الفسحة بتوقّف الأرض عن الدوران حول نفسها، بمعنى أنَّ سرعتها الدورانية أصبحت صفراً بعدما كانت تدور حول محورها المائل بسرعة 1600 كم/ساعة، والانتقال الفوريّ من هذه السرعة الهائلة إلى الصفر يوجب أن ينقذف كلُّ ما على سطح الأرض بعيداً عنها في الفضاء بنفس السرعة وعلى امتداد خطّ الاستواء، بل سيؤدّي التوقف المفاجئ إلى تمزيق سطح الأرض إلى شظايا تتطاير وتنتثر في الفضاء الخارجي، بحسب كبير الجيولوجيين جيمس زيمبلمان.
ولكنَّ المرويّ أنَّ الشمس رُدتّ بعدما غابت، وفي بعض الألفاظ رُدّت بعد أن غرُبت ولها صرير كصرير الرَّحى حتّى صارت في موضعها وقت العصر، ثمَّ غابت واختلط الظلام، وهذا لا يكون إلّا إذا دارت الأرض حول نفسها بالاتجاه المعاكس، وهو أمر مستحيل في نظر علماء الجغرافيا والجيولوجيا والفيزياء والفلك، ولا يطرحونه إلّا من باب التسلية الفكرية؛ لتوضيح الكوارث المناخية التي تنتج عنه.
ولن تنعكس حركة الأرض الدورانية إلّا بثلاثة أسباب: أنْ يختلَّ النظام الكونيّ الذي عهدناه على درجة عالية من الضبط والدقّة، أو أنْ يصطدم بها جرم سماويّ كبير فيُغيّر اتجاه حركتها على فرض بقائها سليمة وصالحة للعيش والحياة، أو أنْ يتدخّل الخالق فيُديرها بيد قُدرته بشكل عكسيّ، وللأسف الشديد فإنّ أصحابنا في كتبهم أو محاضراتهم المنبرية يطرحون الفرض الأخير بكلّ بساطة، مرَّةً من باب الولاية التكوينية، وأُخرى بلحاظ إمكانه في قدرة الله، وهذا قول غريب فعلاً، فقدرة الله المتعالية لا شكّ فيها، ولا شكّ في كونه مسبّب الأسباب الأولى، ولكن على أن لا تتعارض قدرته مع مشيئته وإرادته، وقد قضت مشيئته ومضت إرادته على أن تجريَ الأمور بأسبابها وأن تتّصل الأسباب بمُسبّباتها، كما في الحديث المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام: (أبى الله أن يُجريَ الأشياء إلا بأسبابٍ، فجعل لكلِّ شيءٍ سبباً)، كما أنّ قدرته تعالى تتعلّق بقابلية الأشياء نفسها؛ ومن ذلك ما احتجّ به الإمام الصادق على أحد ملاحدة زمانه الذي سأله: هل يقدر ربك أن يُدخل الدنيا كلّها في بيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ فأجابه بأنّه قادر، وضرب له مثالاً حسياً على ذلك، ولكن فكرة الجواب الأساسية تركّزت على أنّ القدرة هنا لا تتعلّق بالله من حيث هو قادر، بل هي منوطة بقابلية البيضة نفسها. ونعرف أنّ قابلية النظام الكونيّ، وتكوين الأرض، لا تسمحان بذلك وفق القوانين الحالية التي نعرفها.
وهذا التدخّل الإلهيّ المباشر إن لم يكن لحكمة بيّنة فهو اعتباط وعبث تعالى شأن الله عنهما، والحكمة إما أن تكون قديمة كقدم ذات الله، فهي التي قنّنت القوانين الأولى وسنّتْ السنن الكونية الأزلية، وإما أن تكون حادثةً فهي الطامة الكبرى في عقيدة التوحيد.
ولكلّ ذلك، صار لزاماً التفتيش عن فهم علمي رصين لهذه الحادثة، وأول من حاول ذلك سبط ابن الجَوزي كما قلنا، في معرض ردّه على جدّه ابن الجوزي بإيراد هذا الحديث في الموضوعات؛ إذ ذكر أنّ ذلك دعوى بلا دليل. ثمّ قال ما نصّه:
(أرباب العقول السليمة والفِطَر الصحيحة لا يعتقدون بأنّها غابت ثمّ رُدّت، وإنما وقفت عن السير المعتاد، فكان يُخيّل للناظر أنها غابت، وإنما هي سائرة قليلاً قليلاً، والدليل عليه أنها لو غابت ثمّ عادت لاختلّت الأفلاك، وانسدّ نظام العالم، وإنّما نقول: إنّها وقفت عن سيرها المعتاد، ولو رُدّت على الحقيقة لم يكن عجباً، لأنّ ذلك يكون معجزة لرسول الله وكرامةً لعليّ).
وقد نسب السيد منير الخبَّاز في إحدى محاضراته هذا التفسير إلى الشيخ الأمينيّ الذي قال في موسوعة الغدير: (المراد منه حبسها ووقوفها عن سيرها المعتاد لا الردُّ الحقيقيّ، ولو رُدّت على الحقيقة لم يكن عجباً)، وهو ليس كذلك؛ فهذا الرأي ليس من مقولات الشيخ الأميني، وإنما أورده تلخيصاً لما قاله سبط ابن الجوزيّ.
وهذا التفسير وإن بدا مقبولاً إلّا أنه خلاف ما أقرّه الفلكيون من كون الأرض كانت تدور بشكل أسرع ممّا هي عليه الآن، وخمّنوا أنّ اليوم الأرضيّ كان 19 ساعةً تقريباً قبل 1,5 مليار سنة! أي أنَّ حركة الأرض تتباطأ بمقدار ثانية واحدة سنوياً، وهو مقدار طفيف جداً لا يكاد يُشعَر به. وهذا يعني أنّ الأرض، قبل 1440 سنة، كانت تدور أسرع من الآن بمقدار نصف دقيقة فقط.
وهذا الحدث الكونيّ لا يخلو من أمرين، فمرّة يكون خاصّاً بالإمام علي، أو هو وخاصّة من كان معه، ومرّة يكون عالمياً يشمل كلّ سُكَّان الأرض، ومن المستبعد في هذه الحالة أن يرويه 13 صحابياً مسلماً فقط، ويُعرض عن ذكره مؤرّخو الأمم الأخرى وأهل الفلك قديماً وحديثاً. وقد سُخِّفَ هذا الإشكال، ربّما لأنّ من طرحه هو ابن تيمية، ولكنّ الموضوعية تقتضي الإقرار بأنّه إشكال جدير.
وإذ إنّه لم يكن حدثاً كونياً عالمياً، فلا بدّ من الرضوخ لفكرة كونه من خصوصيات الإمام عليّ عليه السلام، وهو ما أميل إليه شخصياً، فالرواية المشهورة عن جُوَيرية بن مُسهر، أنّه قال: أقبلنا مع أمير المؤمنين من قتال الخوارج، حتّى إذا قطعنا أرض بابل حضرت صلاة العصر، فقال عليّ: أيّها الناس، هذه الأرض هي إحدى المؤتفكات، ولا يحلّ لنبيّ ولا لوصيّ نبيّ أن يصلّي فيها، فمن أراد منكم أن يصلّي فليصلِّ. فمال الناس عن جنبي الطريق يصلّون، وركب هو بغلة رسول الله ومضى. فقلت والله لأتبعنّ أمير المؤمنين ولأقلدنّه صلاتي اليوم، فمضيت خلفه، فما جزنا جسر سوراء حتّى غابت الشمس، فشككت، فالتفت إليَّ وقال: يا جويرية أشككت؟ فقلت: نعم. فتوضّأ ثمّ قام، فنطق بكلام لا أحسنه إلّا كأنّه بالعبراني، ثمّ نادى: الصلاة، فنظرت والله إلى الشمس قد خرجت من بين جبلين لها صرير، فصلّى العصر وصلّيت معه، فلمّا فرغنا من صلاتنا عاد الليل كما كان، فالتفت إليَّ وقال: يا جويرية بن مسهر، الله عزّ وجلّ يقول: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيم﴾، وإنّي سألت الله عزّ وجلّ باسمه العظيم فردّ عليَّ الشمس.
والتفسير المقبول لذلك هو ما يُعرف بطيّ الأرض، وهو تعبير مجازيّ لا يُؤخذ على ظاهره اللفظيّ، وإنما يُقصد به قطع مسافات طويلة بسرعة عالية جدّاً، إذا قاربت سرعة دوران الأرض حول نفسها عندها ستبدو الشمس ثابتةً في موقعها من الفضاء، وهذا تأويل عبارة حبس الشمس، أما إذا تجاوزت سرعة حركة الأرض، فسيصلان ــ الإمام ومعه جويرية ــ إلى مكان من الأرض تكون الشمس فيه لا تزال ظاهرة في السماء، وسيبدو كما لو أنها عادت عكسياً إلى جهة الشرق، وهذا هو الفهم العلمي المعاصر الذي نقترحه لتأويل حادثة ردّ الشمس.
والعلم الحديث لا يمنع من ذلك سواء بواسطةٍ ما (كأنْ تكون مركبة خاصّة) أو بمعرفةٍ سرّ من الأسرار (كأمثال الطرق الدودية التي تقترحها الفيزياء النظرية)؛ وقد ثبت أنّ النبيّ انتقل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثمّ غادر إلى الفضاء الخارجيّ وعاد إلى بيته في ليلة واحدة بواسطة المركبة المُسمّاة البُراق، وثبت أنّ عليّاً ذهب من المدينة إلى المدائن لتجهيز سلمان الفارسي ودفنه، وعاد في ليلته. ويذكر القرآن الكريم صراحةً قصّة آصف بن برخيا ﴿الذي عنده علم من الكتاب﴾ وقوله لسليمان: ﴿أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك﴾ وفعلاً جاءه بعرش بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس في طرفة عين. وتذكر الملحمة البابلية الشهيرة أنّ گلگامش وإنكيدو (قطعا مدى سفرِ شهرٍ ونصف الشهر في ثلاثة أيّام) فقط.
وهذا هو تأويلنا المُعجب لهذه الحادثة التاريخية، التي أشار إليها السيّد الحميري في أبياتٍ له:
رُدّت عليـه الشَّمسُ لمّـا فـاتَـــهُ
وقتُ الصلاةِ وقد دنَتْ للمَغْربِ
حتـّى تبلَّـجَ نـورُهــا في وقـتـِهـــا
للعصرِ ثمَّ هوَتْ هُويَّ الكوكـبِ
وعليــه قـد رُدّتْ بـبــابـــلَ مــــرّةً
أُخـرى ومـا رُدّتْ لخَلْـقٍ مُعْــربِ
إلّا ليـوشــعَ أَو لَــــهُ مـن بـعــــدِه
ولـردِّهـــا: تـأويـــلُ أَمــرٍ مُعْـجـبِ