مرقد الصحابي سلمان يُضيءُ المدائن بالزائرين

ريبورتاج 2024/10/06
...

   يوسف المحمداوي
  تصوير: نهاد العزاوي

 خليل، مدرس الفنية في إحدى مدارس بغداد، كان اقتراحه الدائم على الإدارة أن تكون السفرات المدرسية غير متزامنة مع مجيء الأسر البغدادية للمناطق السياحية في سبعينيات القرن الماضي؛ وذلك لخشيته من اختلاط طلبة المدرسة مع الأسر، وما يسببه ذلك الأمر من مشكلات. لكون الأسر تستغل أيام العطل الرسمية وأيام الربيع والخريف للسفر إلى المناطق القريبة من بغداد، لممارسة طقوسها التقليدية والتي تسمى عند البغداديين بـ (الكسلة) وتعني التكاسل عن العمل واستغلال أيام العطل للراحة والفرح، وأيدته الإدارة في ذلك.


(المايزور السلمان عمره خسارة)
في صبيحة يوم ربيعي تحركت الحافلة، وهي متجهة صوب منطقة (سلمان باك) التي تضم مرقد الصحابي سلمان المحمدي، فضلاً عن مرقدي الصحابيين (حذيفة بن اليمان وعبد الله بن جابر الأنصاري وعلي الطاهر ابن الإمام محمد الباقر) رضوان الله عليهم، و(طاق كسرى) وهو آخر ما تبقى من أطلال الساسانيين في مدينة المدائن، وما إن تجاوزت الحافلة بغداد حتى بدأ المدرس خليل يشارك طلبته بترديد بعض الأغاني الشائعة في ذلك الزمن، وما إن اقتربوا من حدود المدينة وأصبحت مئذنة وقبب المرقد تحت مرأى النظر حتى صاح المدرس (الما يزور السلمان عمره خسارة)  والطلبة يرددون معه: (دكيت باب الحلوين باب باب.. طلعوا عليه مسيرين الأحباب) ثم يكمل مدرسهم (والله لابو داوود اجو تسيارة.. العنده نذر واللي اجه لزيارة) والطلبة تصيح (المايزور السلمان عمره خسارة) بعدها يترجل الجميع عند باب المرقد مع ما حملوا في حقائبهم من الطعام الذي أعدته لهم أمهاتهم ولتتمة سعادتهم حملوا لهم بعض الطبول للغناء، اليوم وبعد عقود من الزمن غاب ذلك التقليد عن الطلبة وعن الأسر البغدادية، وها أنا مع الزميلين نهاد وسمير أبحث عن أثر لذلك الفرح، فلم أجد غير الزائرين من مختلف دول العالم لمرقد هذا الصحابي الجليل.
ناحية (سلمان باك) هي إحدى النواحي الأربع (الوحدة، جسر ديالى، النهروان) التابعة لقضاء المدائن الذي يبعد (30) كم جنوب بغداد، والناحية تتميز بموقع تاريخي مهم، لكونها تحتوي على مرقد الصحابي الجليل (سلمان المحمدي) وكذلك تضم المنطقة آخر ما تبقى من الوجود الساساني في العراق وهو إيوان كسرى أو ما نسميه بالطاق، الذي تم تشييده عام (540) ميلادية (وسنفتح ملفه في حلقة مقبلة، نتيجة الإهمال الذي يعانيه هذا المرفق السياحي المهم).

مرقد القباب الأربع
الأمين الخاص لمزار الصحابي، السيد حسن هادي الجبوري يقول: إن بناء مرقد الصحابي الجليل سلمان المحمدي شيد بهندسة معمارية مغربية حديثة تتواءم مع روح العمارة العباسية، وبالنسبة لقبة المرقد يبلغ قطرها ثمانية أمتار وبارتفاع (17) متراً، وفي ما يخص منارتي المرقد يبين الجبوري أن ارتفاعهما يبلغ (23)م، وبقطر مترين، بعد ترميمهما وتصليح ما أصابهما من قذائف العصابات الإرهابية، والناظر إلى المرقد من الخارج يلاحظ أن هناك أكثر من قبة، يوضح الجبوري أنه تم تشييد أربع قباب تعود أولها للصحابي الجليل سلمان والثانية للصحابي حذيفة بن اليمان، والثالثة لمرقدي الصحابيين عبد الله بن جابر الأنصاري وعلي الطاهر ابن الإمام محمد الباقر (رضوان الله عليهم)، والرابعة هي قبة المسجد الذي هو من ضمن المزار وجميعها شيدت في تسعينيات القرن الماضي، وأكد الأمين أن المزار يحظى برعاية واهتمام خاص من الوقف الشيعي، وجرت على المزار مشاريع تطويرية شملت جميع مرافق المرقد من إيوانات ومنشآت حديثة التصاميم وبهندسة متطورة تحت إشراف ورعاية الوقف، لما للصحابي الجليل من مقام ومنزلة عند رسولنا الكريم وآل بيته وصحبه أجمعين، وليس عبثاً حين قال عنه رسولنا الأكرم (ص) "سلمان منا أهل البيت"، وهذا ما جعله قبلة للزائرين من داخل العراق وخارجه.

تأملات وسط الزائرين
تعضيداً لحديث أمين المزار رأينا الكثير من الزائرين القادمين من دول العالم (باكستان، تركيا، جنوب أفريقيا، إيران، ومن دول عربية عدة، وما إن تدخل إلى الحضرة السلمانية حتى يساورك الشعور الصادق الذي لا غبار عليه وأنت تنظر إلى وجوه الزائرين، فترى في ملامحها قلوبهم، كل شيء هناك صادق، الدموع، الخشوع، الدعاء، الصلاة، نقاء الروح والملبس، السبح التي يسبحون بها لله عز وجل أراها تختلف عن تلك التي رأيتها في سوق (زينة اليد) الذي تحدثنا عنه في الريبورتاج السابق، فهذه التي أراها في حضرة المحمدي تسبح لله، أما تلك تسبح للمال وشتان ما بين المسبحتين، وأيضاً الدموع تختلف فالدمعة التي نذرفها على فراق أحبة وأقرباء في مأتم أو في لحظة فراق، تختلف عن الدمعة النازلة في حضرة ولي من أولياء الله، إنها دمعة خشوع، وخوف من ذنب، وطلب براءة، ورجاء رحمة، وتوسل نعمة، وخشية حساب عند باب من أبواب الرحمن، يا له من مشهد يلجم ألسنة التفرقة ويطلق العنان لمجالس الوحدة والسلام والسعادة، عند مضيف هذا الفارسي الذي طلق عبادة النار وترك ثراء أهله وكل كنوز الدنيا، باحثاً عن الحقيقة التي أوصلته إلى هذا المقام الرباني البهي الشريف الذي خلده صاحبه وتخلد به، وكأني بالشاعر أبي تمام كان يقصده حين قال: "مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة.. غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر.. عليك سلام الله وقفاً فإنني.. رأيت الكريم الحر ليس له عمر".

الأبواب الثلاثة وتسمية المدينة
معاون الأمين العام للمزار السيد عامر محمود عويد أشار إلى أن المرقد بني على مساحة تجاوزت العشرة آلاف متر مربع، ببناء مستطيلي الشكل بطول 125م، وبعرض (88)م وللسور الذي يحيط بالمرقد ثلاثة أبواب، فالذي يقع من جهة العاصمة بغداد وهو الرئيس ويسمى "باب الإمام موسى الكاظم (ع)" والذي يقع قبالة نهر دجلة يسمى"باب فاطمة الزهراء (ع)" والباب الثالث هو باب الإمام علي (عليه السلام) لكونه باتجاه النجف الأشرف. هذه المدينة كانت تسمى في السابق (قطيسفون) وقد بناها الإغريق كما تشير المصادر التاريخية قبل الميلاد، واستعمرها الفرس بعد معارك طاحنة مع الروم، ولعل اللوحة الملحمية لمعركة (انطاكيا) بين الفرس والروم والمرسومة داخل الطاق تؤكد ذلك، ولكثرة مسميات المدن المتعاقبة عليها مثل (قطيسفون أو   تيسفون وسلوقية) سميت بالمدائن بحسب قول المعاون، والتي كانت في الزمن الماضي عاصمة للفرس، ولم يتحول المركز عنها إلى بغداد إلا في القرن الثامن الميلادي.

مطلق الدنيا وما فيها
يقول السيد علي كريم أحد خدمة المزار: إن تاريخ ولادة الصحابي سلمان المحمدي غير معروف شأنه شأن الكثير من رموز التاريخ، ولكنه ولد في بلدة تدعى (جي) تابعة إلى مدينة اصفهان واسمه الحقيقي (روزبه)، وأبوه الذي كان من الدهاقين وعبدة النار اسمه (خشفوذان) وكان من أثرياء الفرس ويمتلك الكثير من المزارع، وهذا ما جعله صاحب شأن وسطوة على الكثير من الفلاحين بحسب قول كريم، الذي بين لنا أن سلمان الصبي في ذلك الوقت لم ترق له حياة عبادة النار، وكان يستخف بها رغم المحبة والرعاية التي يحظى بها عند والده الثري، فسهل الله سبحانه له الطريق من خلال سماعه لتراتيل بعض القساوسة في الكنائس الموجودة في أطراف المدن، وبعد زمن من ذلك اللقاء غادر مدينة الأهل مع قافلة من الرجال الصالحين ومعظمهم من القساوسة، ومن خلال الأحاديث التي تدور سمع أحدهم يتحدث عن ظهور نبي في البلاد العربية، ووصف علامات ذلك النبي، وهذا ما كان يريده الباحث عن الحقيقة كما
يوضح محدثنا.

العبد الذي أصبح أميراً
انتقل سلمان في العديد من البلاد ليصل إلى مبتغاه، واتفق مع أناس لينقلوه إلى بلاد العرب، لكنهم كانوا من اللصوص، فغدروا به وباعوه إلى يهودي يسكن في منطقة تدعى (وادي القرى)، وهذا باعه إلى يهودي آخر من بني قريضة الذين يسكنون مدينة يثرب، ومن حسن حظه أن النبي (ص) هاجر في تلك الفترة إلى المدينة، وعند سماع سليمان بوصوله اختلق الحجج لسيده اليهودي من أجل الخروج ورؤية رسول الهدى (ص) والتأكد من العلامات التي وصفوها له عن النبي، وما إن تأكد من ذلك حتى أعلن اسلامه على يد الرسول، وقام النبي (ص) بدفع المال لصاحبه من أجل أن يعتقه وتحقق ذلك، والرسول هو من اسماه (سلمان)، ويعد أول مسلم من بلاد فارس، وشارك الرسول في أغلب المعارك التي حدثت في عهده، وهو الذي أشار على الرسول بحفر الخندق وحماية المسلمين من طغيان جيوش الكفر، وتلك الاستشارة كما يقول محدثنا كريم تعلمها الصحابي الجليل من قومه الفرس في معاركهم الداخلية والخارجية، وبعد وفاة النبي (ص) شارك الصحابي بجميع معارك الفتوحات الإسلامية، ومن ضمنها الفتح المبين لبلاد فارس والعراق، وولاه سيدنا عمر (رض) إمارة المدائن وبقي أميراً عليها إلى أن توفاه الأجل في العام (33) هجرية ودفن فيها
بحسب قوله.

نهاية السفرة المدرسيَّة
عاد الطلبة بعد زيارة الضريح والطاق أو إيوان كسرى (المهمل اليوم) وإن خلت حقائبهم من الطعام المعد لهم من قبل أهلهم، لكن قلوبهم كانت ممتلئة بالفرح والسعادة، من خلال تجوالهم ما بين المرقد الشريف والطاق التاريخي الأثري، وما إن استقلوا حافلتهم للعودة صوب الديار وإذا بصوته العذب المدرس خليل يستنهض روح طلبته وهو يعاود الغناء (المايزور السلمان عمره خسارة) والطلبة يرددون معه وهو يصيح وعيونه وقلبه تودع المزار: (عمره خسارة المايزورك عمره.. يزوروك اهل البيض واهل السمره.. والله لبو داوود شارة خضره.. ولف الاحبه اليوم جتني اخباره) وعيون الطلبة تودع المرقد منشدة مع مدرسهم (المايزور السلمان عمره خسارة).