العملية السرديّة لديَّ سفر على الورق الابيض، سفر غامض محفوف بالملذات والمنجزات والمخاطر، ثمة الكثير من الرفقاء الغائبين – الحاضرين الذين يومضون كالشهب في ظلمة ليلي، ثم الوحدة والعزلة والالم والحزن وذكريات الطفولة الحاضرة معي أنى سرت ورحلت، كل هذه المرئيات المحسوسة والمعيشة تمر معي وبي في قطاري الذاهب الى المجهول عبر محطات خاوية فارغة ومعزولة ثم أراها ممتلئة ومزدحمة بالوجوه المسافرة، اترك فيها كل حين جزءاً من حياتي وبعضاً من كياني الذي صار يتوزع بين المحطات المتنافرة المتباعدة.
تكونت مخيلتي السردية من كل تلك المحطات منذ سنوات الطفولة العليلة والغامضة التي قضيت فيها اعواماً من الاضطرابات الجسدية والخوف من مداهمات الموت المبكر والعزلة عن اترابي وانا في احضان المرض وصولاً الى غربة السجون والمعتقلات وموت الاحبة وغياب الاصحاب في المنافي البعيدة
، وعلى ذكر السجون فكثيراً ما كنت ومازلت اقول وادعو جميع الزملاء المتخصصين الى الاهتمام بادب السجون لانه فن قائم بذاته وهو موزع ومؤسس في ذاكرات شعوب العالم خصوصاً تلك التي مرت بعهود دكتاتورية سوداء ومظلمة ونحن في العراق ما أحوجنا لبناء ذاكرة جمعية مدونة تهتم بتاريخ هذه الحقبة الساخنة في تاريخ الشعب العراقي، خطوتي دوماً تقودني الى ارضٍ بكر لم يكتشفها رحالة بعد
، بعيدة ومطوية لا يقترب منها العاديون واصحاب الجمل الجاهزة واسطوات القص التقليدي وهي صحراء مليئة بالواحات والثمار والمياه العذبة تحمل اسماءً باذخة في المعنى وثراء المخيلة ووهج الحرف الساحر المشوب بروحٍ عرفانية ترتقي الى مقامات عالية في الروح
، في النتيجة كل تلك المشاوير هي طفولات منقطعة صائتة وصامتة لكنها ضاجّة بأناها ووهجها تلج تلك الصحراء المنزوية في راسي ومخيلتي، لان لا مكان لها على الواقع اللهم الا اماكن مفترضة او مرسومة بوهم متعالٍ وخيالٍ نافر
وصارم.
انها مرسومة ايضاً في الكلمات والحروف على الورق الابيض، لهذا فقد خزن هذا الأتون كل مراحل حياتي بحلوها ومرها، حتى تحولت تلك الصحراء وتجوالي فيها الى سرد كثيف ونصوص قابلة للجنون والمغايرة زاخرة بالتجريب والخروج عن المألوف والقديم لكنها في الوقت ذاته محكية ومروية بأناة ودقة وصبر حافل بالتأمل والتزود من متون الروح ومتون الحياة وهوامشها التي قد تتسيد ذروة الاحداث انها تجربة مازالت عامرة تنتظر انجازاً قادماً ..