تشريع قانون الهواء في العراق ضرورة ماسّة لتحقيق التنمية المستدامة
د. جيهان بابان*
في السابع من شهر أيلول من كلِّ عام تحتفل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بيوم الهواء العالمي باعتباره قضية عامّة عابرة للحدود وبهدف إشاعة الوعي بضرورة التصدي لتلوث الهواء ومن أجل تعزيز الشراكات الوطنية والعالمية لتحقيق إجراءات فعالة وتحفيز الاستثمار في هذا الموضوع الحيوي ذي العلاقة المباشرة بصحة وحياة الإنسان والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. وتشير البيانات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية بخصوص حالة الهواء في 195 بلداً لعام 2019 إلى أنَّ 99 % من سكان العالم يعيشون في أماكن لا يرتقي فيها الهواء إلى المستويات المحددة في مبادئ التوجيهية لنوعية الهواء والذي يشكل تهديداً للصحة العامة كحدوث 4,2 ملايين حالة وفاة مبكرة في العالم سنوياً نتيجة تلوث الهواء الخارجي, لأن الهواء هو ما يبقينا على قيد الحياة.
وانطلاقاً من أهمية وجود أساس قانوني للحد من تلوث الهواء في العراق ومحاسبة المتجاوزين قدّمت في لقاء مع سعادة السفير العراقي في لندن في تموز 2019 دراسة كمبادرة وطنية عن مشروع قانون نقاوة الهواء في العراق والتي أحيلت إلى الحكومة العراقية والبرلمان العراقي وحظيت باهتمام إعلامي. وفي آب 2024 تحدثت عن ذات المشروع مع فخامة رئيس الجمهورية في لقاء الأكاديميين والخبراء العراقيين الذي نظمته السفارة العراقية في لندن.
ويتكون الهواء الصالح للعيش من 78 % نيتروجين و21 % أوكسجين ونحو 0.9 % أرجون والبقية هي كميات قليلة من ثاني أوكسيد الكربون والنيون والهيليوم والهيدروجين بالإضافة إلى بخار الماء. علمياً تعريف تلوث الهواء هو الخلل في نسب مكونات الهواء واحتواؤه على الجسيمات الدقيقة أو مواد صلبة أو سائلة أو غازية وإشعاعية أو جرثومية بتركيزات ضارة بصحة الإنسان والكائنات الحية الأخرى. وقد تراكمت هذه الملوثات بصمت خلال عدة قرون وتعاظمت منذ بدء الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر نتيجة النشاط الاقتصادي والصناعي غير المستدام وليمتد تأثيرها إلى حدوث تغيرات مناخية بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري نتيجة الانبعاثات الدفيئة التي أصبحت من أكبر التحديات البيئية في العالم المعاصر. ويأتي تلوث الهواء من مصدرين رئيسين طبيعي وبشري. فالملوثات الطبيعية هي الناتجة عن النشاط الطبيعي لكوكبنا مثل الزلازل وحرائق الغابات والبراكين والعواصف الرملية والغبارية والتفاعلات الكيميائية والحيوية الجارية في التربة وتفسخ الأغشية الحية والعضويات الدقيقة أو انتشار حبيبات لقاح النباتات وبعض الفطريات في الجو في مواسم معينة. أما الملوثات الناتجة عن النشاط البشري فهي الأشد تأثيراً وتنوعاً والمستهدفة في سياقات تقليل تلوث الهواء.
وهناك أسباب عدّة ومركبة لتلوث الهواء في العراق من أهمها الاستمرار في حرق الغاز المصاحب لأكثر من قرن بدلاً من استخدامه لتوليد الطاقة الكهربائية. وقد ضاعفت هذا الأمر تركة النظام السابق من الحروب الخارجية والداخلية وما رافقها من حرق وتدمير للآبار والمصافي والمستودعات النفطية والكبريتية ومخازن المواد الكيمياوية إضافة إلى الحرائق والانفجارات وتجريف البساتين. وقد فاقم الحصار الاقتصادي والمالي تلوث الهواء بسبب توقف عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية كلياً. وبعد 2003 أدى شيوع استخدام الوقود الرديء في وسائط النقل ومولدات الكهرباء الحرارية والمولدات الأهلية إلى ارتفاع حدة التلوث وضاعف منها حرق النفايات المتراكمة في المكبات غير المرخصة والشوارع وحرق الإطارات المستعملة كمصدر للطاقة. وقد تعاظمت نتيجة الممارسات الممنهجة لتدمير "رئة العراق" عبر القطع الجائر للأشجار وتجريف بساتين النخيل والفواكه في الريف والمساحات الخضراء في المدن نتيجة التوسع الحضري العشوائي. وقد استخدم الإرهاب تدمير البيئة كسلاح لترويع المواطنين وتدمير البنية التحتية الصناعية والزراعية والمنشآت النفطية.
ومن أهم ملوثات الهواء في العراق هي الجسيمات الدقيقة التي يختلف تركيبها الكيمياوي وحجمها حسب مصدر التلوث فالدقائق الصغيرة قطرها 2.5 مايكرو مليميتر أو أقل وتبقى محمولة في الهواء لعدة أيام أو أسابيع. وهناك عدة مصادر للتلوث منها عوادم وسائط النقل ومحطات الكهرباء الحرارية والمولدات الأهلية التي تستخدم مشتقات النفط كوقود والأنشطة الصناعية مثل معامل الطابوق والإسمنت والإسفلت والقير وعمليات الهدم والبناء أو حرق مكبات النفايات من المدافئ النفطية في البيوت أو نتيجة تفاعلات كيمياوية بين غازات وملوثات أولية خاصة المكونة من الكاربون الأسود والرمل والغبار التي تحملها العواصف وتؤدي إلى زيادة الإصابات بأمراض الرئة والقلب.
ومن الملوثات المهمة الأخرى أكاسيد الكبريت وخاصة ثاني أوكسيد الكبريت الذي مصدرها استخراج ونقل وخزن واستهلاك الطاقة الأحفورية كمصدر للطاقة ومن حرق الغاز المصاحب وهي أحد مكونات المطر الحمضي وتؤثر في الأغشية الداخلية للجهاز التنفسي والعيون وتفاقم حالة الربو. أما أكاسيد النيتروجين فهي ناتجة عن استخدام مشتقات النفط خاصة الرديئة كوقود في قطاعي النقل والصناعة وفي حالة استنشاقه يخدش الأغشية الداخلية للجهاز التنفسي وله رائحة حادة ويزيد من حدة الربو. ومن الغازات السامة والخطرة أول أوكسيد الكاربون وهو عديم اللون تنفثه عوادم مركبات النقل أو من الحرق الجزئي للخشب المستخدم لأغراض التدفئة أو الطبخ ومن مخاطره عند اتحاده مع هيموغلوبين الكريات الدموية الحمراء يمنع نقل الأوكسجين إلى الأنسجة ويؤدي إلى الموت في حالة التعرض الشديد بسبب انتشاره في أنسجة الجهاز التنفسي ووصوله إلى الدورة الدموية. كما يؤدي استخدام الأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية المتكرر الذي لا يتبع الضوابط والسياقات العلمية مثل رش البساتين والحقول وحدائق الدور وغيرها أحد أسباب تلوث الهواء كما ينبعث غاز الميثان من النشاط الزراعي وفضلات الماشية وهو أحد الغازات الدفيئة الذي يسهم في زيادة الاحتباس الحراري.
ويتلوث الهواء أيضا بالمعادن السامة حيث يتوقف حجم ومقدار التلوث على نوعية المصنع من ماكينات ومواد أولية ومصدر الطاقة المستخدمة لتشغيله وتحوي مركبات الرصاص والبريليوم والزرنيخ والنحاس والزنك وأوكسيد النيتروجين وثاني أوكسيد الكبريت وينبعث الهواء والغبار من عمليات صهر النحاس والرصاص والزنك والزئبق والنيكل ومن منشآت إنتاج الكيماويات والأدوية والطلاء والبلاستيك وأيضا من تكسير الصخور وصناعة الحديد الصلب والرمل والإسمنت وصناعة المطاط والقير وصناعة الورق. ويؤدي استخدام البنزين غير المحسّن في وسائط النقل إلى تلوث الهواء بالرصاص الذي يشكل خطراً على الأطفال بشكل خاص ويؤدي إلى اضطرابات في السلوك والتفكير وتدهور قدرة التعلم وفرط الحركة وتأخر النمو وضعف السمع وفقر الدم وفي الحالات الشديدة الصرع والغيبوبة وأيضاً الإسقاط لدى الحوامل.
وتنبعث غازات الكلوروفلوروكاربون من مكيفات الهواء وبخاخات الإيروسول والتي تتفاعل مع الغازات الأخرى وتؤدي إلى ثقوب في طبقة الأوزون تسمح للأشعة الفوق بنفسجية بالوصول إلى الأرض والتسبب بسرطان الجلد وأمراض العيون. بينما يؤدي التعرض إلى غاز الأمونيا وله رائحة نفاذة ويدخل في صناعة الأغذية والسماد والأدوية إلى تهيج وتورم المجاري التنفسية وتقرح العيون والجلد.
ومن الملوثات الأخرى الإشعاعية نتيجة الأنشطة العسكرية والمتفجرات أو التحلل الطبيعي لغاز الرادون داخل قشرة الأرض ويتراكم في الطابق الأسفل من المباني فتزيد من حالات الإصابة بالسرطان. وتمثل الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات الناتجة عن الاحتراق الجزئي للمركبات العضوية والتي من أهمها الوقود الأحفوري نوعاً آخر من ملوثات الهواء التي من مخاطرها سرطانات الرئة. وثاني أوكسيد الكربون الذي هو أحد الغازات الدفيئة ومكون طبيعي في الغلاف الجوي وضروري للحياة النباتية لإكمال عملية التمثيل الضوئي ولكن زيادة الانبعاثات تؤدي إلى الاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الكوكب. وحسب إحصائيات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في 2024 فإنَّ العراق ينتج حالياً 200 مليون طن سنويا من ثاني أوكسيد الكاربون تقدر قيمتها بـ8 مليارات دولار أمريكي في سوق الكاربون العالمي.
ويظهر في سماء العراق في بغداد والبصرة أحياناً الضباب الدخاني الذي يظهر على شكل قبة ضبابية بنية اللون فوق المدن الملوثة وله رائحة حادة ويحدث نتيجة تفاعل المواد الكيمياوية المنبعثة من عوادم السيارات والأنشطة الصناعية التي تتفاعل بمساعدة ضوء الشمس لتكون مجموعة من الملوثات الثانوية التي تتفاعل مع غاز الأوزون الموجود في طبقات الجو السفلى (وهو غير الأوزون في الغلاف الجوي العلوي) وله مخاطر صحية عدة مثل زيادة حدة أمراض الرئة والقصبات وصعوبة التنفس وزيادة معدلات الإصابة بأمراض القلب والعيون والجلطة الدماغية وخفض المناعة.
ومن الخطوات الهامة في مكافحة التلوث البيئي ومنها الهواء هو تزامن احتفال هذا العام مع إعلان وزارة البيئة عن الاستراتيجية الوطنية الشاملة لحماية البيئة ومكافحة التلوث (2024 - 2030) بالتعاون مع شركاء دوليين وسنتناول بعض أقسامها ذات العلاقة بهدف الحد من تلوث الهواء. والملاحظ أنَّ البيانات المعتمدة فيها تعود لعام 2017 ولكن الاستنتاجات مازالت تحتفظ بصحتها وتؤكد مجددا مسؤولية الأنشطة الاقتصادية والصناعية والنفطية والنقل عن تلوث الهواء والتي لا يمكن حصرها بدقة بسبب محدودية قاعدة البيانات المتوفرة والتقنيات المطلوبة للمراقبة وجميعها أشارت إليها الاستراتيجية الوطنية. وحظيت المساءلة القانونية باهتمام نتيجة الخروقات المستمرة في الالتزام بالمحددات البيئية وقدمت مقترحات هامة منها إجراء دراسة شاملة للملوثات الكيميائية للبيئة ومنها الهواء ونشر مصادر الطاقة النظيفة للاستخدام المنزلي. وقد أكدت الأستراتجية أيضا مسؤولية قطاع الطاقة في تلوث الهواء نتيجة حرق الغاز المصاحب وعمليات استخراج ونقل النفط ودور قطاع النقل ومكبات النفايات في زيادة تلوث الهواء.
وقدمت الاستراتيجية جملة من الاستنتاجات والخطوات التنفيذية القطاعية كخارطة طريق لتحسين حالة البيئة العراقية. أكدت دور التكامل القطاعي في التنفيذ ورسم الخطط والحوكمة وتفعيل الإرادة الإدارية والقانونية. ومن الأهداف أيضا التوسع في نشر الحزام الأخضر وتثبيت التربة لتقليل نسبة تطاير دقائق الغبار جراء العواصف الرملية وإجراءات أخرى مهمة على صعيد قطاع النقل والكهرباء والتأكيد على استخدام التقنيات الحديثة وبضمنها الرقمية. ونظرا لأهمية ما جاءت به استراتيجية حماية البيئة الوطنية (2024 -2030) سأتوسع في بعض استنتاجاتها بهدف الإغناء والتأكيد على بعض محاورها المتعلقة بتلوث الهواء حصرا على شكل معالجات وحلول مقترحة:
1. ترتبط سياقات التخفيف والتكيف مع التغير المناخي عضويا بمكافحة تلوث الهواء فأحدهما يكمل الآخر ومن هنا تأتي أهمية التنسيق بين الإجراءات على صعيد الاستراتيجيات والخطوات التنفيذية.
2. تحديث البنية التشريعية للحد من تلوث الهواء (رقم 4 لعام 2012 ورقم 2 لعام 2012) عبر تشريع قانون خاص بنقاوة الهواء يتناول في ديباجته مسببات تشريع القانون وارتباطه بصحة المواطن العراقي والاستدامة الاقتصادية واستجابة لمتطلبات العدالة البيئية كأحد حقوق الإنسان العراقي التي نص عليها الدستور كما يحوي صياغات قانونية لمفهوم محددات نوعية الهواء والمسؤولية القانونية للقطاعات الحكومية والوزارات والحكومات المحلية والقطاع الخاص في حماية الهواء من التلوث ومبدأ التقييم البيئي مع منظومة من الإجراءات العقابية المتدرجة للمخالفين والمتجاوزين. ويمكن الاستفادة من تجارب بعض البلدان بهذا الخصوص مع استعدادنا لتحديث الدراسة التي قدمتها قبل بضع سنوات.
3. العمل من أجل توفير محددات وطنية لمواصفات نوعية الهواء تعتمد الأدلة البحثية العلمية وتكون إحدى أدوات إدارة الحد من تدهور نوعية الهواء.
4. تحديث وزيادة وتوسيع أنظمة رصد نوعية الهواء موزعة بعناية في بغداد وعموم المحافظات وبضمنها إقليم كردستان قادرة على قياس الجسيمات الدقيقة والملوثات الكيميائية وبضمنها الغازات والمعادن كالرصاص على شكل محطات رصد ولوحات تعرض مؤشر جودة الهواء في الطرق والبؤر الساخنة التي تسجل تلوثاً عالياً وكاميرات مراقبة على مصادر انبعاثات للأنشطة الصناعية وإخضاعها للمساءلة القانونية في حالة التجاوز . وتتم الاستفادة من البيانات حول مصادر ومستوى التلوث لمعرفة وتحديد اتجاهات التلوث المستقبلية عبر الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية وتقنيات الذكاء الاصطناعي (لتحديد الاتجاهات العامة للتلوث والبؤر الساخنة) بالتعاون مع الشركاء الدوليين ومع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في دعم إقامة مراكز أكاديمية بحثية عن جودة الهواء ولإعداد وتدريب كوادر مهنية وتقنية لضمان إدامة وصيانة محطات المراقبة.
5. إيجاد نقلة نوعية في تطبيق سياقات التقييم البيئي ليشمل المشاريع وتفعيل المنصة الإلكترونية وأتمتة عملية إصدار الموافقة وصولا إلى إقامة مركز وطني للرقابة بما يعزز الأداء الأفضل للمراقبة والحوكمة ومتابعة الإجراءات المترتبة على التقييم البيئي العائد للمشروع المعين وتدريب كادر متخصص تقني في التقييم البيئي والاجتماعي والتي يمكن أن تكون مجالا للاستثمار من قبل القطاع الخاص.
6. تعمل التوعية البيئية على تعميم المعارف البيئية في أوساط شرائح المجتمع عبر رسائل ملائمة من خلال الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمنشورات والملصقات والندوات والمؤتمرات لتحفيز المتلقين للمساهمة والمشاركة الفردية والمجتمعية في الحد من تلوث الهواء كونها مسؤولية الجميع وبضمنها حملات تشمل المدارس والأسر العراقية خاصة في السابع من أيلول في كل عام.
7. أن تتضمن المناهج الدراسية في كليات الطب والتمريض خاصة في برامج الوقاية الصحية إحاطة حول علاقة التلوث البيئي بالصحة العامة وخاصة الهواء والماء.
8. الإعداد والمشاركة في المؤتمر العالمي الثاني حول تلوث الهواء والصحة والذي سيعقد في كارتاخينا، كولومبيا، في آذار 2025 بدعوة من منظمة الصحة العالمية إلى الحكومات لتقديم التزامات وطنية محددة حول الحد من تلوث
الهواء.
ولنعمل جميعا من أجل هواء نظيف واستخدام الطاقة المتجددة، والتخفيف من التغير المناخي في عراق أخضر مستدام
*خبيرة في علوم البيئة وهندسة الطاقة المتجددة والتغير المناخي
مؤسِّسة ورئيسة جمعية البيئة والصحة العراقية في المملكة المتحدة
والمركز العراقي لهندسة الطاقة المتجددة والتغير المناخي