أحمد الشطري
عُرف عن الروايات التقليدية تركيزها على بناء الشخصية الروائية بدقة صارمة، إذ يعمل الروائيون على تقديم شخصياتهم، وخاصة الفاعلة في الحدث الروائي بما يجعل منها تقارب، إن لم تكن تطابق الواقع، فهم يعمدون إلى رسم تلك الشخصيات بعناية فائقة من خلال تحديد الصفات البدنية وطبيعة الصوت والملبس وأسلوب التحدث والعمر واللون وهيكلية الجسد، وحتى ما يتعلق بالصفات النفسية من عقد وطموحات واعتقادات وغير ذلك من سمات، معتبرين ذلك جزءاً أساسياً وضرورة حتمية، لإكساب الشخصية الروائية مصداقية تؤهلها لعملية إقناع القارئ بما يجري عليها من أحداث، وكأنها صورة مصغرة لواقع حي.
وهذا ما جعل من الرواية تبدو وكأنها تدوين تاريخي للمجتمع بما يجري فيه من وقائع، وما يعتري مكوناته البشرية والمكانية والزمانية من تغيرات، وكثيراً ما شكل هذا التأكيد المفرط على الاهتمام برسم الشخصيات الروائية خديعة للقارئ، وخاصة (القارئ العام) -إن صح التعبير- الذي يختلط لديه الواقع بالمتخيل، من خلال التماهي العاطفي مع الشخوص والأحداث، بما يشابه تأثير الأفلام السينمائية والتي كثيراً ما تولد قناعات لدى المشاهدين بأحداثها وشخصياتها.
ويؤكد عبد الملك مرتاض في كتابه "في نظرية الرواية" أن التركيز على رسم ملامح الشخصية والتهويل من شأنها، وكأن الشخصية في الرواية التقليدية هي كل شيء فيها، بحيث لا يمكن أن نتصور رواية دون طغيان شخصية مثيرة يقحمها الروائي فيها، هو ما جعل من الممكن محورة دراسة رواية، أو تحليلها، على مجرد شخصيتها دون أن يكون ذلك مستنكراً.
ويؤكد مرتاض أن هذا الاهتمام المفرط برسم الشخصية الروائية في الروايات التقليدية شهد معارضة واستهجاناً كبيراً من الروائيين والنقاد في بداية القرن العشرين، وخاصة عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، فظهر من ينادي بتخفيف نزعة (الغلواء) في رسم الشخصية الروائية باعتبارها جزءاً مكملاً لبنية الرواية وليست البنية الكلية لها أو المقصد الغائي لها، وهو ما تبناه (أندري جيد وفرجينيا وولف وهنري جيمس) فشكل حالة وسطية في النظر لأهمية الشخصية الروائية. في حين ظهرت آراء أكثر تشدداً وتطرفاً تجاه الشخصية الروائية لدى من يسمون بالروائيين الجدد في منتصف القرن العشرين أمثال (آلان روب غرييه، وميشيل بوتور، وكلود سيمون، ووليام بيروتس،) إذ دعا هؤلاء إلى (موت الشخصية الروائية) من خلال عدم إعطائها حجماً أكبر ما تستحق باعتبارها (مشكّلاً لسانياً وكائناً ورقياً) تتساوى في الأهمية مع (اللغة والمشكّلات السردية الأخرى).
ورغم أن هذه النظرة تبدو متطرفة إلا أنها أسهمت في الحد من المغالاة في رسم الشخصية الروائية التي تجعل منها الركيزة الأساسية التي ينبني عليها الخطاب الروائي، أو المحور الذي تدور حوله بقية المشكّلات السردية، فباتت للخطاب السردي نواقل أخرى تتساوق أو تتساوى وربما تفوق الأهمية التي تضطلع بها الشخصية الروائية.
ولم تكن هذه الثورة ضد الشخصية في الرواية البلزاسية التقليدية، تشكل مدرسة بالمفهوم التقليدي للكلمة، وإنما هي فكرة مشتركة بين دعاة الرواية الجديدة التي دعت من بين ما دعت له هو:
1 - استكشاف تدفق الوعي ولا سيما من خلال استخدام المونولوج الداخلي. كما في رواية عوليس أو يوليسس (Ulysses) لجيمس جويس.
2 - تفسير غرابة العالم، من خلال قصر نفسها على الذاتية.
3 - الانفتاح على القارئ، ومشاركته في تقديم رؤيته الخاصة.
4 - التشكيك في حيلة السرد والتاريخ، بوصفهما مؤامرة غامضة.
5 - التأكيد على أن الحبكة ليست ضرورية لقيادة القصة، وهو ما استقوه من رواية (Rebours" (1884) ليوريس كارل هويسمانز.
6 - التأكيد على مبدأ اللامركزية في القصة، على النقيض من الرواية التقليدية التي كانت تبنى على نواة مركزية تتمثل بالشخصية ومصيرها. وهو ما تمثل في روايات ألان روب غرييه. وأبرزها روايته الجالوسي (La Jalousie).
لقد شكلت مقالات ألان روب غرييه وجان ريكاردو وآخرين من النقاد الفرنسيين مرتكز نظرية الرواية الجديدة، ومن بين مقالات ألان روب غرييه. مقاله المهم (موت الشخصية) المنشور في مجلة (Le Nouvel Observateur) الأسبوعية عام 1957، ومقاله (الطريق إلى رواية المستقبل) عام 1956، ومقاله (من أجل رواية جديدة) عام 1963، والذي يقول فيه:" في الواقع، لم يعد مبدعو الشخصيات، بالمعنى التقليدي، ينجحون في تقديم أي شيء آخر لنا سوى الدمى التي كفوا هم أنفسهم عن تصديقها". بالإضافة إلى مقالات جان ريكاردو في مشكلات الرواية الجديدة 1967، وعن نظرية الرواية الجديدة 1971، وغيرها من مقالات نقاد وكتاب الرواية الجديدة.
ويمكن أن نقول إن هذه التنظيرات الجديدة شكلت نقلة مهمة في مسيرة الرواية، تتماهي في كثير من جوانبها وآلياتها مع التطور الحداثي، وما بعد الحداثي بكل تفاصيله وتشعباته، ولعل أوضح صور هذا التماهي يتمثل في الحد من مركزية الشخصية، وهو ما ينادي به الفكر الحداثي اجتماعياً وسياسياً. بالإضافة إلى طروحات الفكر الما بعد حداثي في تهشيم اليقينيات الذي أسهمت في بلورته الانتقالات المتسارعة في عالم التقنيات.