غيوم الكبريت تزحف وتكتم سماء بغداد

ريبورتاج 2024/10/17
...






 فجر محمد

 تصوير: علي قاسم-كرم الاعسم-احمد جباره





ينتاب إكرام مجيد الخوف والقلق من تجدد نوبة الربو والسعال، التي هجمت عليها دون سابق إنذار مؤخرا، بعد أن كانت تقضي وقتا مع أبنائها وأحفادها في أحد المطاعم ببغداد ليلا، مستمتعة بالهواء الطلق، لكن تلك الجولة المسائية، تحولت إلى كابوس كما وصفته، اذ سيطر عليها السعال المتواصل، ثم نوبة ربو شديدة.


تقول إكرام بينما تستذكر تلك اللحظات العصيبة كما وصفتها: "لقد ظننت أن أنفي توهم في تفسير تلك الرائحة التي تشبه الكبريت، التي التقطتها قبل جميع الحاضرين، ولكن تاريخي المرضي والطويل، الذي عشته مع الأمراض التنفسية، وبالتحديد التحسس الشديد من الروائح، الذي تحول في ما بعد إلى نوبات ربو مكنني من التقاط الرائحة وبسرعة".

مستشار وزارة البيئة للشؤون الفنية الدكتور عمار جابر العطا، اشار إلى أن رائحة الكبريت التي انتشرت في أجواء العاصمة، وبعض المناطق الأخرى من البلاد كانت واضحة، وتمكن اغلب المواطنين من تمييزها وبوضوح شديد، ولذلك قامت الوزارة بنصب مختبرات جوالة، وفرق فنية رابطت في المواقع، التي انتشرت فيها الرائحة، من أجل تحديد المسبب الأساسي لانتشارها، وتم تحديد المواقع المتوقع انبعاث الرائحة منها والحصول على البيانات والمعلومات الدقيقة، التي تفسر هذه الظاهرة بشكل صحيح وعلمي، اذ تم تشكيل لجنة مختصة بتوجيه من رئاسة الوزراء، من أجل التعرف على الجهات المسببة لهذا التلوث، ومن ثم إيجاد حلول عاجلة لإيقافه.


رصد الملوث

تشير التقارير والدراسات العلمية إلى أن عمليات الاستحصال على الكبريت، أصبحت في وقتنا الحاضر تتم من خلال عملية تكرير النفط، اذ يتم تحويله إلى حمض الكبريتيك، ويدخل في صناعات مختلفة منها الأسمدة والمبيدات، فضلا عن عيدان الثقاب. ونشر الموقع الالكتروني لوكالة ناسا، تقريرا أفاد بأنه على مدى أكثر من عقد من الزمان، رصدت أداة مراقبة الأوزون (OMI) على القمر الصناعي أورا التابع لوكالة ناسا تغييرات في ملوث جوي خطير، إذ ظهر ثاني أكسيد الكبريت (SO2)، ووفقا للتقرير المنشور فإنه وبالإضافة إلى الأضرار بصحة الإنسان، يتفاعل الغاز مع بخار الماء لإنتاج الامطار الحمضية. كما يمكن لثاني أكسيد الكبريت أن يتفاعل في الغلاف الجوي لتكوين جزيئات الهباء الجوي، التي يمكن أن تساهم في انتشار الضباب والتأثير على المناخ. كما أن بعض المصادر الطبيعية مثل (البراكين والحرائق والعوالق النباتية)، تنتج ثاني أكسيد الكبريت ولكن حرق الوقود الأحفوري الغني بالكبريت، خصوصا الفحم والنفط والبترول يعد المصدر الرئيس للغاز.

وفي ما يخص العراق وبعد أن شعر المواطنون واستنشقوا هذا الغاز،  قامت وزارة البيئة مؤخرا بعمليات فحص وقياس ميداني بدأت في ساعات الليل واستمرت لغاية الصباح، خصوصا في الأيام التي انتشرت فيها رائحة الكبريت بشكل واضح، كما قامت الوزارة بعقد اجتماعات ولقاءات مع جهات مختلفة مسؤولة في الحكومة، فضلا عن القيام بزيارات ميدانية لمعامل الطابوق والطمر الصحي، ومن المتوقع أن يكون هناك استطلاعات جوية لتقييم الوضع بشكل أدق.

من جهته بين مرصد العراق الأخضر أن  استخدام نفط عالي الكبريت ومحطات الكهرباء، يتسببان بانتشار التلوث في سماء بغداد، اذ كشف المرصد عن الأسباب الكامنة وراء انتشار رائحة الكبريت في سماء بغداد بشكل متكرر، مشيراً إلى أن هذا التلوث ناجم عن استخدام نفط عالي الكبريت في محطات توليد الكهرباء. كما حذّر المرصد من أن هواء بغداد، خاصة خلال الأيام الأخيرة، بات محمّلاً بمواد خطرة تهدد صحة الأطفال وكبار السن.


خسائر اقتصاديَّة

أسواق واعدة ومجالات متعددة بإمكان البلاد أن تنهض اقتصاديا بفضلها، ولكنها هددت هي الأخرى بسبب التلوث البيئي الذي تشهده البلاد في الوقت الحاضر، ومن وجهة نظر عميدة كلية اقتصاديات الاعمال في جامعة النهرين الدكتورة نغم حسين نعمة، فإن هذا التلوث سيكلف البلاد كلفا اقتصادية لتنظيف البيئة بشكل تام والتخلص من آثارها، التي تنعكس على مجالات مختلفة، كما أن هذه الظروف البيئية غير الصحية من شأنها أن تؤثر في الاستثمارات الاجنبية، وبدل ان تكون البلاد بيئة جاذبة تصبح طاردة لهذه الاستثمارات، علما ان هناك مجالات مختلفة من الممكن ان تنهض بوضع البلاد اقتصاديا منها المعامل المتوقفة، والمشاريع الصناعية المتنوعة والسياحة، كذلك استثمار المعادن الموجودة وغيرها من الخيرات التي يتمتع بها العراق.


مراقبةٌ وتعقب

توقعت وزارة البيئة وقتا محددا ستظهر فيه رائحة الكبريت، بسماء العاصمة بغداد لذلك نصبت اجهزتها ومختبراتها الجوالة وفرقها الفنية التي رابطت في الاماكن، التي توقعت الوزارة أن تصدر منها الرائحة وبوضوح وعن هذا الاجراء، اشار مدير عام حماية وتحسين البيئة في المنطقة الوسطى الدكتور سنان جعفر محمد إلى ان الوزارة تقوم بمراقبة وتعقب رائحة الكبريت، ومعرفة المسببات الرئيسة لتلك الرائحة، التي يرجح أنها تحدث بسبب استخدام الأساليب البدائية في بعض الصناعات والوقود الثقيل في العمليات الإنتاجية، ولهذا الامر تأثيرات سلبية على صحة وسلامة المواطنين.

وتجدر الاشارة إلى أن تلك الانبعاثات تنطلق مع الدخان المتصاعد من حرق النفط، وترتفع ثم تتراكم في طبقات الجو وعند مرور البلاد بظاهرة طبيعية تحدث بين المواسم، وهي الانعكاس الحراري تبرز وبوضوح تام.

اظهرت العديد من الخرائط الجغرافية، التي التقطتها الاقمار الصناعية أن هناك تركيزا شديدا لغاز ثنائي أوكسيد الكبريت وبمستويات عالية في سماء بغداد، ولكن المستشار الدكتور عمار العطا أوضح أن تلك التراكيز لا تعكس بالضرورة النسب الحقيقية لهذا الغاز، ولذلك قامت البيئة بنشر الفرق الجوالة والمختبرات المتطورة من أجل إيجاد الأدلة والبراهين العلمية، التي توضح حجم التراكيز الحقيقية، وأماكن انتشارها ومن ثم مخاطبة الجهات المسؤولة عن هذا الامر، وحل المشكلة بأسرع وقت ممكن.

وفي وقت سابق قام المتنبئ الجوي صادق عطية، بوضع منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، أشار فيه إلى أن  تحول الرياح جنوبية شرقية، وسكونها يؤدي إلى  انتشار رائحة كبريت كريهة في أجواء العاصمة.


حرق النفايات

عندما استيقظت صباحا لم تشعر بالارتياح، ولأن سمر محمود تعاني من حساسية في العيون وسعال، استمر لفترة ليست بالقليلة فهي تقطن بمنطقة كانت تنبعث منها رائحة الكبريت، بشكل لا يوصف فضلا عن الدخان والضباب، الذي خيم على المكان، وتقول سمر بنبرة صوت تنم عن الانزعاج: "لقد عانيت منذ الطفولة من التحسس والتهيج في عيني، وفي أغلب الاحيان أذرف الكثير من الدموع، اذا ما شممت رائحة مزعجة، ولذلك منذ أن ظهرت هذه الرائحة الغريبة في الجو، وأنا أعاني من نوبات متكررة". وتبين أنها في إحدى الجولات بالسيارة برفقة أسرتها شاهدت سلاسل من النيران تتصاعد، وتجري مع الرياح ونبعث منها روائح مزعجة وتثير السعال، ليتبين لاحقا أنها عمليات حرق للنفايات، متناثرة في الطرق الخارجية.

يوضح الخبراء والمختصون أن هناك حرقا مستمرا للنفايات، بهدف الحصول على معادن معينة، اذ يقوم بعض الاشخاص بحرق إطارات السيارات، وتركها تشتعل لغاية الصباح الباكر للحصول على بعض المعادن، ولكن الأمر المثير للقلق هو امكانية انبعاث غازات مختلفة، أثناء هذه العملية وانطلاقها في الجو، ومن ثم استنشاقها من قبل المواطنين، ما يعني مخاطر صحية كثيرة ولا يمكن حصرها. 

وتلفت العميدة الدكتورة نغم حسين نعمة إلى أن أحد أسباب التلوث البيئي هو طمر النفايات وحرقها بشكل عشوائي في حين من الممكن الاستفادة منها بشكل كبير، أسوة بدول العالم المتقدمة، وتحديدا تجربة ألمانيا التي نهضت اقتصاديا بفضل المشاريع الواعدة والمتطورة بهذا المجال، ولذلك يجب أن يكون هناك اهتمام فعلي والاستفادة من الخبرات العلمية المتطورة بمجال تدوير النفايات.