سوق الشيوخ: تحتضن الفرات وتغفو على حافة الهور

فلكلور 2024/10/17
...

تصوير: مصطفى الجيزاني

على تلّ ذي مساحة واسعة كان يُعرف باللغة السومريَّة بحسب الآثاريين باسم «سوك مارو» أي سوق الحكيم، بُنيت مدينة سوق الشيوخ، وكان هذا المكان المرتفع المحاط بالمياه من كلِّ أطرافه وبشكل خاص في موسم الفيضان حيث تتمدَّد الأهوار المحيطة بالمنطقة، فيكون هذا المرتفع المكان الأمثل لإقامة الأسواق الموسميَّة للتبادل التجاري بين سكّان الأهوار وسكّان البادية، حيث تتبادل القبائل المختلفة منتجاتها في هذه السوق. وقد أقيمت المدينة بناءً على أوامر الأمير ثويني بن عبد الله السعدون عام (1761م) لتكون عاصمة لإمارته بدلاً من العاصمة السابقة وهي مدينة العرجا، وبقيت السوق المركز الأهمَّ وعاصمة الائتلاف القبلي قرابة المئة عام حتى عهد مشيخة ناصر باشا السعدون، أيام الحكم العثماني، حيث أمر ببناء مدينة الناصريَّة التي سُمِّيت على اسمه عام (1869) إبّان عهد الوالي مدحت باشا الذي حاول جاهداً نشر التحضّر والاستقرار بين القبائل المرتحلة في جنوب وغرب العراق وذلك بإنشاء المراكز الحضريَّة التي ستقود إلى استقرار القبائل أولاً وبالتالي دفع الضرائب عن الأراضي الزراعيَّة وتوفير المحاربين في حال الحاجة لهم في حروب الدولة العثمانيَّة. ومع تأسيس مدينة الناصريَّة انتقلت الأهميَّة الإداريَّة والاقتصاديَّة من سوق الشيوخ إلى المدينة الجديدة، وأضحت عاصمة الإمارة القديمة تابعة للمدينة الجديدة.

وتبعد سوق الشيوخ نحو (370 كم) جنوب غرب بغداد، ويقطنها نحو (200) ألف نسمة من مختلف القبائل منهم عشيرة آل عليوي، وآل عثمان، والحجام، والنواشي، وعشيرة السادة المشعشع وغيرهم.

تحتضن سوق الشيوخ نهر الفرات وتنام على حافة الهور من جهة وعلى حافة الصحراء من ناحيتها الثانية، مدينة بُنيت على ضفتي الفرات بالرغم من أنَّ المدينة القديمة كانت مبنيَّة بشكل رئيس على الضفة الغربيَّة من النهر فقط، وذلك لتكون أقرب إلى البادية، وذلك لتسهيل ارتباطها كسوق قبليَّة بحركة القبائل البدويَّة في بادية السماوة، لكن ومع تجمع الحرفين القادمين من نواح مختلفة، سكن الضفة الشرقيَّة من نهر الفرات مهاجرون صابئة انتقلوا من نواحي محافظة ميسان الجنوبيَّة والأهوار للسكن بشكل منفصل على الضفة الشرقيَّة للمدينة ليتكوّن منهم بعد ذلك ما عُرف بحي «الصبة» الصابئة، ويربط بين طرفيها جسر يوصل الضفة الشرقيَّة بالغربيَّة، وهي مركز قضاء تقع ضمن حدود محافظة ذي قار جنوب العراق.

وبما أنَّ المدينة تكوَّنت من تجمع مهاجرين من مناطق وقبائل ومدن وأديان وطوائف مختلفة، لذلك نرى انعكاس ذلك على أحيائها. فالضفة الغربيَّة توزعت بين أربعة أحياء رئيسة، هي حي البغادة وواضح أنه تجمع للقادمين من بغداد وحي النجادة للقادمين من نجد وكذلك محلة الحويزة للذين هاجروا من الأحواز وما جاورها. وقد كانت تعيش في سوق الشيوخ جالية إيرانيَّة يبدو أنَّ لها تأثيراً اقتصادياً حتى استوجب وجود قنصل إيراني في المدينة. أما محلة الحضر فإنَّ سكانها خليط من الذين جاؤوا من مدن متفرقة وبعض الأرياف المجاورة للمدينة. وكانت هذه المحلات الأربع متجاورةً تتوزّع مساحة التلِّ الأثري الذي أقيمت المدينة عليه، وقد أحيطت بسور له أبواب تُفتح وتُغلق في مواعيد وفقاً للنظام السائد في تخطيط المدن في تلك الفترة. وكانت وظيفة الأسوار هي حماية المدن وبشكل خاص تلك التي تكون على تماس مع حركة القبائل البدويَّة في الصحراء.

يذكر الباحث يعقوب سركيس في مباحث عراقيَّة أنَّ «سوق الشيوخ لم تشد إلّا بعد سنة (1781) م» أي أنها أصبحت مركزاً ثابتاً لمهمات الشيوخ المذكورين، ومخزناً لذخيرتهم، وملجأ حصيناً يلوذون إليه عند الحاجة، وخطط لهذا الغرض عمارة على الضفة الغربيَّة من الفرات في موضع يبعد عن الناصريَّة غرباً (35) كيلومتراً.

كما يذكر المدينة الرحالة الإنكليزي جاكسون في رحلته للعراق عام (1797م) وذلك بعد مروره بها قادماً من البصرة ومتّجهاً إلى بغداد عن طريق الفرات، في كتاب «مشاهدات بريطاني عن العراق» سنة (1797) حيث يذكر «وسوق الشيوخ مدينة واسعة ومأهولة جداً بالسكان وهي مقرّ (الشيخ ثويني) وهو من أمراء العرب الأقوياء الذي تخضع لحكمه الضفة اليمنى من نهر الفرات من الحلة حتى البصرة. ولقد ثار في إحدى المرات علانية ضدَّ الحكومة العثمانيَّة واستولى على مدينة البصرة ذاتها».

ويذكر الكولونيل والسياسي، والكاتب الأنثروبولوجي البريطاني هارولد ريتشارد ديكسون الذي عمل حاكماً عسكرياً لسوق الشيوخ إبّان الحرب العالميَّة الأولى. ويقول في كتابه «الكويت وجاراتها» في فصل تحت عنوان (أنا أدير سوق الشيوخ) «وبعد أن احتلَّ الجنرال نورمنغ، الناصريَّة في تموز/ يوليو سنة (1915م) أرسلت كضابط استخبارات إلى سوق الشيوخ، المدينة العربيَّة الصغيرة على الفرات في وسط قبائل المنتفك، ولم تكن القوانين تسري هناك حتى في أيام الأتراك قبل سنة (1914م)، فقبائل المنتفك عنيدة متمردة وكانت في حالة من الفوضى بحيث اضطرتني إلى حثّ الدائرة السياسيَّة، التي يرأسها السير برسي كوكس، الذي كان ينظم الإدارة المدنيَّة في جنوب العراق على إرسال ضباط لإدارة المنطقة. وكم كانت دهشتي عندما تلقيت برقيَّة عينني فيها السير برسي كوكس مساعد ضابط سياسياً، بالإضافة إلى واجباتي الأخرى في سوق الشيوخ».