الحداثة وفوضى المصطلحات

ثقافة 2019/06/24
...

د. كريم شغيدل
لعلّ الاستعمالات الخاطئة أو غير الدقيقة للمصطلحات أولى إشكاليات الحداثة، بدءاً من مصطلح الحداثة نفسه، ففي التراث الأدبي العربي استعمل النقاد القدامى مصطلحي "القدامى والمحدثين" وهذا الاستعمال كان يشير إلى المعنى الزمني، على الرغم من أنه يلمّح ضمناً إلى التحوّل الفني الذي طرأ على الشعر آنذاك، ويبدو أنَّ الثقافة العربية المعاصرة قد ورثت ذلك المعنى، ما أربك عملية التعاطي مع الحداثة مصطلحاً ومفهوماً، إذ استعملت مصطلحات (النهضة، التنوير، الحديث، الجديد، المعاصر) وغيرها استعمالات ملتبسة، ففى الأغلب كانت تشير لمعنى الزمن، وعندما بدأت النخب العربية بتداول مصطلح الحداثة استعمل من بعضهم بكونه نزعة للتجديد، غير مرتبطة بزمن ولا بمنطلقات فلسفية أو معرفية معينة، لذلك أصبح الحديث وارداً عن حداثة الجاحظ أو أبي حيان أو الحلاج وأبي تمام وأبي نواس وبشار بن برد، ثمَّ انسحب الأمر إلى المصطلحات الأدبية لا سيما في استعمال مصطلحي (الشعر الحر وقصيدة النثر)، فكلاهما كان عرضة للاستعمال غير الدقيق الذي لا يتطابق مع الأصل، وتطور الأمر ليشمل المصطلحات النقدية إلى درجة الخلط بين المعنيين الاصطلاحي واللغوي والتوظيف العشوائي غير المدرك للمفاهيم.
 إنَّ "سمة الخلط والغموض والارتباك التي تسم جميع الممارسات التي تتصل بأمر المصطلح، تفاعلت، فأصبحت إشكالية أساسية من إشكاليات الثقافة العربية الحديثة"كما يقول الدكتور عبد الله إبراهيم فقد نقلت الترجمة مساوئها وتناقضاتها في صياغة وتوصيل المعاني، وقد كانت ظاهرة ترجمة النقاد للمصطلحات وتوظيفها مباشرة هي الأبرز، ما كان يدفعهم أحياناً لتحوير بعض المفاهيم أو تكييفها بما يناسب فرضياتهم ووجهات نظرهم، هذا في حالة الترجمة المعبأة بقصد مسبق، أمّا في حالة الترجمة المقصودة لذاتها، فهناك الكثير من التباينات التي يمكن اكتشافها بمقارنة الترجمات، فكتاب (سوسير) الشهير (علم اللغة العام) ترجم إلى العربية ثلاث ترجمات -على سبيل المثال- في كل من سوريا وتونس والعراق، والملاحظ هناك اختلاف في توصيل بعض المفاهيم، ومن المؤكد أنَّ بعض الدارسين يبنون فرضياتهم على تلك المفاهيم، الأمر الذي يفضي عادةً إلى فوضى اصطلاحية ومفهومية، والظاهرة الأكثر إرباكاً هي مناقلة المصطلحات بين الحقول المعرفية والثقافية المختلفة، ويعزو الدكتور عبد الله إبراهيم هذه الإشكالية لسببين هما:
1 - إشكالية الأصالة.
2 - إشكالية المعاصرة.
 
فعلى قدر ما هناك نفور وانغلاق بحجة الأصالــة، هناك استعمال مبالغ به بحجة المعاصرة، وبسبب ضعف الفعاليات المعرفية والنقدية والنظرية في الثقافة العربية، فقليلاً ما نجد مصطلحات عربية محض، إذْ تهيمن المحمولات الغربية على ما نستعمل من مصطلحات، على أنَّ بعض النقاد راح يؤسس لمنظومة اصطلاحية مؤلفة من ألفاظ منحوتة على الطريقة الاصطلاحية، بصورة مجردة لا تتصل بمفاهيم ذات أسس ومنطلقات، ونرى أنَّ الفوضى الحاصلة في استعمال المصطلح، إنما تنمُّ عن فقر نظري وخلل منهجي، فمعظم النقاد العرب – كما يقول  عبد الرضا علي- لا يفرّقون بين (الشعر الحديث) و(الشعر الحر) إذ يستعملان بمعنى واحد، ويرى علي "أنَّ جوهر (الشعر الحديث) مرتبط بالمحتوى، بالمضمون، بالفكرة، بينما يرتبط (الشعر الحر) - في الأصل- بالشكل، بالصيغة، بالأسلوب، أي بين الـ Content، والـForm أو Style" على أنَّ(content) لاتعني الصيغة بل تعني المضمون، فالفوضى الاصطلاحية أنتجت مفاهيم مرتبكة، ومن ثمَّ انعكس ذلك سلباً على تجليات الحداثة العربية وأطروحات الحداثيين العرب، الأمر الذي سهّل على المؤسسة الأصولية الطعن بالحداثة ووصفها بالغموض والتغرّب وعدم الأصالة ومن ثمَّ التعاطي معها بوصفها فكراً مستورداً الغاية منه تخريب تراث الأمة ومسخ هويتها الثقافية... إلخ، وكما يقول جمال جاسم أمين: "إنَّ كثيراً من الجهد النقدي في العراق يصلح أن يوصف بأنه (ترجمة) وليس نقداً لأنه قائم أساساً على إعادة توصيف وشرح خطاب(الآخر)" ولعلّ هذا المعنى ينطبق على معظم الجهد النقدي العربي، لاسيما المغاربي الذي يصعب فيه التمايز أحياناً بين ما هو مؤلف وما هو مترجم، وقد بدت تأثيراته واضحة على النقدية العراقية منذ مطلع الثمانينيات. وللحديث صلة.