{المابينيةَّ» في الفلسفة المعاصرة

ثقافة 2019/06/24
...

نصير فليح
من يطّلع على العمل الفلسفي والفكري لعدد من ابرز فلاسفة العالم المعاصر ومفكريه، سيلاحظ حالة “المابينية” في الكثير من المفاهيم الرئيسة. ونقصد بـ “المابينية” تلك الحالات التي تقع على الحد الفاصل بين حالتين او مرحلتين او منطقتين، دون ان تنتمي لأي منهما، وبالتالي تكون ذات طابع انتقالي توسطي، ومع ذلك فهي تأسيسية وجذرية، كما سنبين.
أغامبن و”مرحلة الوليد”
من يطلع على فلسفة جورجو أغامبن الاونطولوجية، اي المتعلقة بموضوع الوجود والكينونة، سيجد عدة مفاهيم رئيسة تحمل هذه السمة المابينية. أغامبن يقارب موضوع الوجود اساساً من خلال موضوع اللغة. وفي مفهومه الذي يسميه Infancy، وهي كلمة تعني حرفياً “مرحلة الوليد”، وتشير الى مرحلة تسبق اكتساب الانسان للغة، نلاحظ ان هذه المرحلة او المفهوم المابيني مفهوم تأسيسي في علاقة الانسان باللغة والوجود. هذه المرحلة هي مرحلة انتقالية بين الحالة الاولية التي لا يملك فيها الانسان سوى صوته من دون لغة، والمرحلة التالية التي يكتسب اللغة فيها كخطاب. ورغم انها مرحلة عابرة، الا انها تظل فاعلة في كينونة الانسان، وفي الانفصال الاساسي بين وعي الانسان والعالم المحيط به. وهو انفصال يتحتم بحكم تميز الانسان عن بقية الحيوانات (التي لها صوتها الخاص المعبر عن كينونتها بصورة مباشرة وفورية) في ان الانسان يكتسب اللغة اكتساباً، وهذا ما يفتح له آفاق كينونته المميزة (الدازين Dasein حسب هايدغر) لكنه في الوقت نفسه يظل محكوماً بهذا الانفصال المتأصل بين اللغة والعالم.
 
الحياة العارية
مفاهيم اخرى تعكس هذه المابينية نجدها ايضا في فلسفة أغامبن السياسية. فلو تصورنا القانون مجالاً معيناً، فإن ما هو سيادي، اي السلطة التي لها القدرة على تعليق القانون في حالة الاستثناء State of Exception، كما في حالات الطوارئ والاحكام العرفية، تقع على احدى حافتي القانون، داخله وخارجه في آن. فهي مشمولة به جزئياً، ولكن بطريقة مختلفة عن الاخرين، كما لها القدرة على تعليق القانون في حالات الاستثناء. وهذا يتجسد في اشكال السلطة السيادية الاقدم كشخص الملك او السلطان او الامير الحاكم، مثلما يتجسد في السلطات السيادية في الدول الحديثة. وعلى الجهة المقابلة من المجال تقع ما يسميه “الحياة العارية” bare life، وهي الحالة  الاقصى في تضادها مع السلطة السيادية، اذ تعني حالة الانسان المعرض الى امكانية سلب جميع مواصفات حياته البشرية الاجتماعية وتحويله الى مجرد حياة بايولوجية، بما في ذلك امكانية القتل. فهي حالة تقع بين الوجود الاجتماعي والوجود البايولوجي، كما جرى (حسب ما يذكر أغامبن) في معسكرات الاعتقال النازية، او معسكر غوانتانامو، او حالة اللاجئين الذين يجدون انفسهم محرومين من اي مواصفات حياة اجتماعية تحت مظلة قوانين المجتمعات التي لجأوا اليها. وهاتان الحالتان الحديتان المابينيتان، السيادية من جهة والحياة العارية من جهة أخرى، تكشفان الطبيعة الجوهرية للقانون، ماضياً وحاضراً، كما يرى اغامبن.
 
جيجك وديكارت 
نستطيع ملاحظة “المابينية” ايضاً في مفهوم سلافوي جيجك عن “الذات” subject. فمفهوم “الذات” مفهوم رئيس في تاريخ الفلسفة ولا يزال. وهو يرتبط بشبكة مفاهيم رئيسة اخرى مثل “الحقيقة، “الوعي”، “الواقع”، “الأنا”، “العالم”، اي تلك المفاهيم التي تمثل العمود الفقري في الفلسفة، لا سيما في مجال فلسفة الوجود “الاونطولوجيا” او طرائق المعرفة “الابستمولوجيا”.
جيجك يحاكي طريقة ديكارت ومنهجه دون ان يصل الى النتائج التي يصل اليها ديكارت. فديكارت، كما هو معروف، يتبنى شكاً منهجياً جذرياً يصل به الى الشك في كل شيء بما في ذلك وجوده هو نفسه ووجود جسده ووجود العالم الذي من حوله. وذلك قبل ان يصل الى ان هناك نقطة تصمد امام اي شك، وهي حقيقة انه يفكر. فحتى لو شك انه يفكر، فان الشك نفسه نوع من التفكير ايضاً، وبالتالي ستظل هذه الحقيقة صامدة. ليستمر بعدها في بناء صرحه الفلسفي على هذه الركيزة الاساسية التي صارت تعرف بالكوجيتو “انا أفكر اذا انا موجود”. وفي هذه الرؤية، تكون “الذات” عند ديكارت جوهراً قائماً بذاته مستقلاً عن العالم الخارجي المحيط به، ومن هنا صفة الثنائية الجوهرانية في فلسفة ديكارت، اي وجود جوهرين: “الذات” من جهة، و”العالم الخارجي من جهة اخرى، كقطبين مستقلين متقابلين.
 
“الذات” و”النفس”
جيجك اذ يحاكي منهجية ديكارت الاختزالية هذه في مقاربته لمفهوم الذات، يصل الى تصور مختلف. فالذات بالنسبة لجيجك هي نوع من منطقة مابينية، أولية، عابرة، ولكنها تأسيسية لما سواها في العالم الداخلي للانسان. انها حالة بين الطبيعة والثقافة، بين العالم الغفل والوعي، فهي منطقة لم تعد غفلاً كاشياء الطبيعة، ولكنها ليست واعية في الوقت نفسه. ومن هذه الزاوية يناظرها مع صورة “ليل العالم” التي ترد في كتابات هيغل، منطقة اختلاط او تشوش اولي (جنون؟) تمهيدي يؤسس لما يليه.  
ولعلنا نستطيع تشبيه مفهوم جيجك هذا عن الذات بتلك الحالة من الهيولي او العماء او الفوضى الاولية (كايَس Chaos، رغم انه درجت ترجمته في العربية الى “كاوس”)، فهي منطقة بين الخلق والعدم، بين الروح والمادة، بين الوجود واللاوجود، بين اللاشيء وكل شيء. وواضح الفرق هنا بين ما يصل الى جيجك مقارنة بما وصل الى ديكارت، رغم التشابه في المنهج الباحث عن الذات عبر منهج الاختزال.
أما “النفس” self، حسب جيجك فتختلف عن “الذات”، لأن النفس هي السردية التي تتأسس على اساس الذات، على اساس المعارف والمعلومات والتجارب والخبرات التي تمر بها. وهكذا، فرغم ان الذوات تتشابه في كونها مناطق مابينية مضببة، فان السرديات المختلفة التي تكونها هي الانفس التي تتنوع بتنوع البشر وتجاربهم والطريقة التي يربطون بها معطيات هذه التجارب والخبرات في سياقات وسرديات محددة.