مقصات بريشت.. انطباعات عن معرض في لندن
ترجمة: نجاح الجبيلي
كتب الناقد المسرحي شين بويل هذه الانطباعات عن معرض لكولاجات بريشت مجلة “نيو لفت ريفيو” وقارن بين كولاجات بريشت التي تصور وحشية النازية وهمجيتها وصور دمار غزة في الحرب التي شَّنها الصهاينة.
في ديسمبر (كانون الأول) 2022، عقدت جمعية بريشت الدولية مؤتمرها السابع عشر بعنوان “برتولت بريشت في الأوقات المظلمة: العنصرية والقمع السياسي والديكتاتورية” في جامعة تل أبيب، بالتعاون مع جامعة حيفا والجامعة العبرية في القدس. وأصدرت أكثر من عشر منظمات فنية فلسطينية بياناً حثَّت فيه الجمعية على إعادة النظر في المؤتمر. واعتبرت أن استضافة مثل هذا الحدث في مؤسسات متورطة في الاحتلال كانت “إهانة لذاكرة بريشت” ومن شأنها أن تقوِّض نضال فلسطين “نحو الحرية والعدالة والمساواة”. لكن المؤتمر انعقد ومضى قدماً. وحين سافر بعض الحاضرين إلى رام الله لمحاولة الالتقاء بفنانين ومثقفين فلسطينيين، قوبلوا بالرفض. وبعد مرور عام، وفي خضم حملة الأرض المحروقة المستمرة، دمر الجيش الإسرائيلي آخر مسرح في غزة. أوقات عصيبة بالفعل. لمعت صورٌ من غزة في ذهني حين زرت معرض “ شذرات بريشت”، في لندن ويضم أكبر مجموعة من المواد المرئية من أرشيف بريشت يجري عرضها على الإطلاق. إذ تنتشر المجلات والرسومات التخطيطية ومقتطفات الصحف ومخططات لحبكات والألبومات والمخطوطات وغيرها من المواد التي جمعها بريشت على مدار ثلاثة عقود وتحتل أربعة طوابق في بناية “ريفن رو” بلندن. إن إحياء “مختبر المنوعات” هذا، كما وصف فالتر بنيامين ذات مرة غرفة عمل صديقه بريشت، هو أداء جماعي يجوب صالات العرض، مقتبس من أربعة أجزاء مسرحية غير معروفة كتبت خلال سنوات سقوط جمهورية فايمار. يؤكد عنوان المعرض على نية القيمين عليه تسليط الضوء على الكولاجات، والمقتطفات، والقصاصات، وكل الأشياء المجزأة في أعمال بريشت. إذ يقدم مزيجها المؤلف من المواد الأرشيفية والمراجع نظرة ثاقبة لأساليب عمل الفنان الذي فعل الكثير لتحديد معايير الفن الاشتراكي. توجد في إطار ومعلقة في غرفة الافتتاح عدة صفحات مخطوطة من أشهر أعمال بريشت البصرية، كتاب “فتيل الحرب” (1955). تحتوي كل صفحة منه على صورة من الحرب العالمية الثانية، مرفقة بأربعة أبيات لاذعة. على سبيل المثال، تصاحب صورة جوزيف جوبلز أبيات مقفاة:
أنا “الطبيب”، أطبّب ما يُطبع.
قد يكون عالمك، ولكن لدي كلمتي.
وماذا في ذلك؟ يجري إعادة اختراع تاريخها.
حتى قدمي العرجاء تبدو مزيفة اليوم.
هنا، يوجه بريشت انتقادات حادة إلى كبير دعاة الرايخ الثالث، لكن التجاور يهدف إلى تحقيق أهداف أعلى، تحريف ادعاءات الحقيقة التي تقدمها وسائل الإعلام المرئية.
ومع ذلك، استخدم بريشت الكولاج والمونتاج ليس فقط كتقنيات فنية؛ كان تجميع الأجزاء معاً هو أسلوبه في البحث والمراجعة، والأهم من ذلك، التعامل مع العالم المحطم من حوله. على بعد بضعة أقدام من كتاب “فتيل الحرب”، يوجد داخل عدة صناديق زجاجية صفحات من ألبومات جمعها بريشت إلى حد كبير أثناء منفاه في أميركا بين عامي 1941 و1947. وتظهر هنا لأول مرة، وتتكون من بطاقات كبيرة الحجم ألصقَ عليها قصاصات من الصحف والمجلات. وتبدو هذه الصور في مجموعات موحية، ومن بينها صور لمدن دمرتها الغارات الجوية، وجثث متناثرة بين الأنقاض.
يهتم الكثيرون بكيفية تكرار الأشكال الاجتماعية عبر سياقات سياسية مختلفة: صورة النازي الذي يفتش أحد المناصرين اليوغوسلافيين التي تقع إلى جنب مع أحد مقاتلي المقاومة الإيطالية وهو يأسر فاشياً؛ ويظهر حشد مسعور يقتحم بنكاً أمريكياً إلى جنب حشد فاشي؛ يجري مقارنة بوني وكلايد مع هتلر وغوبلز. تنتشر في كل مكان مشاهد النضال الجماعي، من فلاحي كالابريا الذين يستولون على الأراضي الزراعية إلى عمال المناجم والنساء المضربين. في إحدى الصفحات، يظهر هتلر وهو يرفع قبضتيه بغضب وتحته صورة تلميذ ألماني يفعل الشيء نفسه. بالنسبة لبريشت، كان غرض الجمع على الأرجح هو بحث في المفردات الإيمائية للفاشية التي غذت نصوصه وعروضه، مثل المسرحية المناهضة لهتلر عام 1941 “ صعود أرتورو يوي المقاوم”. وقد نبع هذا من اهتمامه الأوسع بإضفاء الطابع المسرحي على السياسة، وهو ما يتجلى أيضاً في قصاصات معروضة عن موسوليني وروزفلت وستالين.
تُظهر النصوص المشروحة ومخططات الحبكة المعروضة في أنحاء المعرض أن بريشت كان حريصاً على تقطيع مخطوطاته كما كان حريصاً على قصاصات الصحف والمجلات. وكما أكد مسرحه الملحمي على أن كل مشهد من المسرحية يجب أن يقف بمفرده، فقد حكم مبدأ مماثل تأليفه لمثل هذه الأعمال المسرحية. وثمة سطور فردية، ومقتطفات من الحوارات، وفصول كاملة. لم يكن هناك شيء في مأمن من مقص بريشت. قام هو ومعاونوه بإعادة ترتيب المسرحيات والقصائد والروايات، وقاموا بتقطيع أجزاء منها ولصقها في أماكن جديدة أو حتى في مخطوطات أخرى. سمحت هذه الممارسة لبريشت بمعاينة أفكاره تماماً من منظورات مختلفة، وتعديل كتاباته السابقة لتتوافق مع الظروف المتغيرة.
في معرض “شذراته”، نتحرَّى التاريخ من خلال عيني بريشت وهو يتنقل في عصر مضطرب، من فايمار برلين إلى رحلة هروبه من هتلر عبر أوروبا، ولجوئه لأميركا في زمن الحرب، وأخيراً، عودته إلى ألمانيا المقسمة، حيث تمت استمالته إلى ألمانيا الشرقية في برلين بوعد مسرحه الخاص. كان جمع الأجزاء وسيلة للتعامل مع الأوقات المظلمة التي عاشها، ولكن يمكن أيضاً جعل الأرشيف يتحدث عن عصرنا. أسفل أحد تدوينات اليوميات، بتاريخ 5 أبريل- نيسان 1942، ألصق بريشت قصاصة إخبارية: امرأة ثكلى، انهارت في أحد الشوارع مزقتها الحرب في سنغافورة، تصرخ بصمت على الحطام، وطفلها هامد في يدها. فوق هذا المشهد الكئيب، يفكر بريشت فيما إذا كانت كتابة الشعر في مواجهة هذا البؤس هي أكثر من مجرد “التراجع إلى برج عاجي”. ويعكس قلقه سؤالاً طرحته مؤخراً سارة عزيزة في مجلة “جوش كرنت” حول طوفان الصور المؤلمة من غزة: “ما الذي يعنيه كل هذا المنظر؟” لكتابة هذه المراجعة، قمت بالعودة إلى نسختي من كتاب “فتيل الحرب” وفوجئت بالعثور على نفس الصورة من مجلة بريشت، مصحوبة بقصيدة. ونشهد بريشت وكأنه يجيب على سؤال عزيزة أعلاه. إن كون المعرض قد أثار ومضات من التقدير لم يكن ليثير استياء بريشت. مثل صديقه فالتر بنيامين، تصوّر التاريخ على أنه اقتران جامح بين الماضي والحاضر.
تظهر صورة يعود تأريخها إلى أكتوبر 1943 مبنىً في ألدغيت، قريباً من مكان المعرض، وقد تحطمت واجهته بفعل قنبلة ألمانية. في الطابق الأرضي يتم تقديم عرض مسرحي لجمهور صغير. ويعيد إلى الأذهان المسارح المدمرة في غزة والضفة الغربية. أحد هذه المسارح، مركز سعيد المشعل في مدينة غزة، جرى تدميره بالأرض في 9 أغسطس 2018 في غارة جوية إسرائيلية. وبعد أيام، نصب سكان غزة مقاعد بلاستيكية بيضاء أمام الأنقاض، وتسلق الممثلون فوق الخرسانة والفولاذ لإحياء هذه الذكرى الحزينة. وصرحت ممثلة شابة قائلة: “سنعيد بناءه. يعتقدون أنهم دمروا المبنى. كلا، لن نتوقف أبداً. يمكننا أن نمثل في الشارع. يمكننا أن نمثل على الرمال”.
إن تناغم صور الدمار من غزة مع السجلات التي تصور الوحشية والهمجية التي جمعها بريشت يتوافق تماماً مع هدف مجموعته. وكما كتبت سارة جيمس في مساهمتها في كتالوج المعرض:” ترك بريشت وراءه أرشيفه الضخم من الكولاجات والشذرات ليس لأغراض “تخليد الذكرى، ولكن كموارد جماعية للمستقبل”.