مؤيد أعاجيبي
في عالم يتّسم بالمعرفة الواسعة والتخصّصات المتعدّدة، تبدو الفلسفة كإحدى الجزر الفكرية المعزولة التي يصعب على الكثيرين فهمها بشكل كامل. فهي من العلوم التي تهدف إلى استكشاف طبيعة الوجود ومعنى الحياة من خلال التأمل والتساؤل العميق.
دائمًا ما تسعى الفلسفة إلى تحديد رؤية شاملة للحياة الجيدة التي يجب أن يسعى الإنسان لتحقيقها، وذلك عن طريق التفكير النقدي المستمر والتطور المعرفي المتواصل. هذه العملية الفكرية تعتبر إنجازًا في حد ذاتها، حيث تمتد جذورها إلى العصور اليونانية القديمة، مرورًا بعصر النهضة ووصولًا إلى التيارات الفلسفية في القرن العشرين. وعلى الرغم من أن الفلسفة تعتمد على تحليل مفاهيم مجردة وعميقة مثل الأخلاق والعدالة والوجود، فإنها تُعَدُّ أيضًا أداة عملية لفهم الحياة اليومية بعمق أكبر.
ومع ذلك، عندما يدعي شخص بصريح العبارة أو عن طريق كلماته وتصرفاته بأنه الوحيد الذي يفهم بالفلسفة!!!، يجب أن نتساءل: هل يدرك حقًا جميع أبعاد هذا العلم المعقد؟ أم أن هذا الادعاء يعكس بعضًا من الغرور أو التبسيط المفرط لما تتطلبه الفلسفة من دراسة وتأمل مستمرين؟ فالفلسفة لا تتعلق فقط بمعرفة بعض النظريات أو المفاهيم، بل بقدرة الإنسان على التفاعل مع تلك الأفكار بمرونة وتطبيقها في مجالات مختلفة من الحياة.
عندما أخطو نحو عالم الفلسفة، أجد نفسي محاطًا بتحديات أكبر مما كنت أتخيل. الفلسفة ليست مجرد مجموعة من الأفكار التي يمكن استيعابها بسهولة، بل هي إطار منهجي يتطلب إعادة تقييم كل ما نعتقد أنه مألوف وبديهي. إنها ليست مجرد تساؤلات سطحية، بل أداة للتعمق في الحقائق التي تكمن خلف المفاهيم التي قد تبدو بسيطة، ولكنها تحمل في طياتها طبقات من التعقيد.
ومع كل خطوة في هذا الطريق، أدرك أنَّ الفهم ليس بالسهولة التي قد يتصورها صديقي، الذي يصر بثقة على أنه تمكن من استيعابها بالكامل، زاعمًا أنَّ فهمه يتجاوز فهم الآخرين!!!. إلا أنني، رغم سنوات دراستي وحتى بعد حصولي على الدكتوراه، أجد أنَّ التصادم بين تلك المفاهيم الفلسفية العميقة وما نعتمده من أفكار بسيطة في حياتنا اليومية يجعل عملية الفهم أكثر تعقيدًا وصعوبة مما يبدو. أحيانًا، أجد نفسي أشعر وكأنني ما زلت في بداية رحلتي نحو الفلسفة، رغم كل ما تعلمته.
لهذا، أجد نفسي دائمًا أقول إنَّ فهم الفلسفة يشكل تحديًا حقيقيًا للكثير من الأشخاص، سواء كانوا متخصصين أو غير متخصصين. إنَّ ادعاء البعض بأنهم قادرون على استيعابها بشكل كامل يبدو لي مجرد ادعاء فارغ، إذ إنهم غالبًا ما يفتقرون إلى القدرة الحقيقية على البرهنة على ذلك. أعتقد أنَّ هذا الادعاء يعكس فهمًا سطحيًا للفلسفة، والذي قد يكون نتيجة لعدم الاطلاع الكافي أو نقص التجربة العملية. لهذا السبب، يجب على الذين يدعون أنهم يفهمون الفلسفة أن يتحلوا بالتواضع ويكونوا مستعدين للاستماع والتعلم المستمر.
ففهم الفلسفة يتطلب فعلاً وقتًا وجهدًا وتفانيًا حقيقيين، ولا يمكن تحقيقه إلا من خلال دراسة معمقة وتفاعل جاد مع الأفكار الفلسفية. إذ لا يكفي أن نقرأ بعض النصوص أو نستمع إلى محاضرات مختصرة ليقع البعض في فخ الادعاء بفهم جميع جوانب الفلسفة، وهو ما غالبًا ما يكون غير واقعي. تمتاز الفلسفة بتنوعها الكبير وكثرة مدارسها وتياراتها، ولا يمكن لشخص واحد أن يحيط بكل هذا التنوع في فترة زمنية قصيرة. الفهم الفلسفي يحتاج إلى استثمار مستمر للوقت والجهد، بالإضافة إلى القدرة على قبول فكرة أنَّ المعرفة الفلسفية لن تكون مطلقة أو نهائية.
التواضع الفكري يعد واحداً من أبرز السمات التي ينبغي أن تلازم صاحب المراهقة الفلسفية, لأنَّ الفلسفة كانت منذ بداياتها، تدور حول طرح الأسئلة بدلًا من تقديم إجابات قاطعة أو فهم قاطع. على سبيل المثال سقراط، الذي يُعد رائد الفلسفة الغربية ومؤسسها، كان يُعرف بإعلانه بأنه لا يعرف شيئًا، وهو ما يُعرف بــ”جهل السقراطي”. لكن هذا الجهل لم يكن مجرد اعتراف بالعجز، بل كان دلالة على وعيه بحدود معرفته، ودعوة مستمرة للبحث والتساؤل. لذا، ينبغي أن يصاحب أي ادعاء بفهم الفلسفة إدراك أنَّ المعرفة الفلسفية ليست نهاية مطاف، بل تظل الأسئلة الكبرى حول الحياة والمعنى والأخلاق مفتوحة للنقاش والتأمل باستمرار الزمن. إنَّ التواضع الفكري يُعد ضروريًا لتوسيع هذا الأفق وترك هذا الهراء والثقة غير الحقيقية, من أجل تعزيز الحوار البنّاء، مما يتيح للفرد فهماً أعمق للأفكار الفلسفية المتنوعة والمعقدة.