(القول والقائل).. سرد الذات النيابي

ثقافة 2024/10/30
...

عبد علي حسن

 * تعرّف السيرة الذاتية بأنها سرد الذات يؤلفها الكاتب عن حياته وسيرته، فيدون فيها Hحداث حياته المهمة والبارزة التي أدّت إلى بناء شخصيته وتجاربه المهمة بأسلوب أدبي ذي لغة جيدة وأمانة كبيرة، وهي تختلف عن المذكرات واليوميات التي يدوِّنها الكاتب بالشرح المفصَّل للأحداث، وتعدّ (الأيام) بأجزائها الثلاثة للكاتب طه حسين أول سيرة ذاتية في أدب السيرة العربي، ولعل من أهم شروط كتابة السيرة الذاتية هو تضمينها أحداث ووقائع وشخصيات حقيقية من دونما تحريف وتزييف، وهذا ما يشكّل قسمها التاريخي، إذ لا يمكن تخيُّل أحداثاً وشخصيات مختلقة من خارج الوقائع التي حصلت للكاتب، على أنها تُعرض على القارئ بطريقة مؤثرة وبشيء من الخيال الذي لا يخلّ بالوقائع التاريخية بل يضفي عليها الإثارة والحيوية والتشويق عبر أسلوب كتابتها السردي وهذا ما يشكّل قسمها الأدبي والفني بعدّها سرداً أدبياً يحوز على فنون القول البلاغية . وهنالك نوع من السيرة الذاتية يمكن تسميته بالسيرة الذاتية بالنيابة، وهو مفهوم يشير إلى توكيل شخص آخر بسرد سيرة شخص معيّن بدلاً من أن يقوم هذا الشخص بسردها بنفسه، ومن أهم الجوانب الحافّة بهذا المفهوم هو أن الشخص الذي يقوم بسرد السيرة لم يكن قد عاش التجربة الحياتية، لكنه ينقل مشاعر وأفكار وتجارب الشخص الأصلي وبصيغة ضمير المتكلم (أنا) كما أن سرد الذات النيابي يوفر وجهات نظر متعددة حول الأحداث مما يعزز الفهم والتعاطف، ولكن التحديات التي تواجه هذا المفهوم هي إمكانية فقدان بعض التفاصيل الدقيقة والمشاعر حيث يتم نقل التجربة من قبل شخص آخر، فعلى المستوى العالمي فقد شهد هذا النوع السيري بعضاً من النماذج كما فعل عدد من الأدباء المعروفين مثل ستيفان زيفايج والروائي والمسرحي الفرنسي رومان رولان  الذي كتب سيرة بتهوفن وغاندي وتولستوي وسواهم، ولعل رواية (أشواق طائر الليل) للروائي عيسى مهدي الصگر محاولة لكتابة سيرة ذاتية للشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب بأسلوب روائي،
وفي كتاب ( القول والقائل) لمؤلفه الروائي خضير فليح الزيدي الصادر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2024 ط أولى يتجلَّى هذا النوع السيري / النيابي  في هذه المنطقة التوصيفية، فشكلت العتبة الأولى نزوعاً لانحياز كاتب السيرة لصاحب السيرة وهو الناقد العراقي (فاضل ثامر)، وتبدّى ذلك الانحياز عبر محاولته تقويض مقولة روسية قديمة بالية ..كذا ( فما أُقيم تمثال لناقد قط ) وتحت هذه المقولة نقرأ ( أن مدونة سيرة فاضل ثامر هي إعلان صريح لتكذيب هذه المقولة التاريخية الباطلة ) ونستدلّ من هذا الرأي على أن سيرة فاضل ثامر تستحق أن يُقام له تمثال نظراً للمنجز النقدي الذي قدمه الناقد فاضل ثامر للنقدية العراقية والعربية ولتأريخه الشخصي المزدان بالمواقف النبيلة وما تحمّله عبر حياته النضالية من اضطهاد ومضايقة وقهر سياسي، ولم يكن هذا الرأي من قبل كاتب سيرة فاضل ثامر متسرعاً أو انحيازاً عاطفياً بل نتيجة لما أفضى به صاحب السيرة من محطات ثقافية وسياسية كوّنت تأريخاً ينبغي أن يصل إلى المتلقِّي ليتعرَّف عن كثب على تلك المحطات التي جعلت منه ناقداً موضوعياً ذا تجربة ثرية مؤثرة، وبذلك -- وكما يرى خضير الزيدي -- كاتب السيرة -- أن تلك السيرة يستحق صاحبها أن يقام له تمثال إبطال للمقولة الروسية واعتزازاً بسيرته العطرة، ولعل هذا الرأي الذي تصدَّر الكتاب وكوّن عتبة أولى هو تحصيل لثمرة العديد من الجلسات والحوارات التي دارت بين صاحب السيرة وكاتبها، كما أنها تُعدّ حافزاً ودافعاً وفضولاً من قبل المتلقِّي لمتابعة هذه السيرة أي أن هذه العتبة كانت تشويقاً للمتلقي الذي سيبحث في السيرة عن مصداقية كاتبها في محاولته بل تأكيده بضرورة إقامة تمثال لهذا الناقد بعد أن جحدته المقولة الروسية القديمة، وبذا فإن هذه العتبة الأولى قد حازت على تأثير مباشر لدفع المتلقي وتحفيزه للدخول إلى متن السيرة، فقد وجد كاتب السيرة في سيرة الناقد فاضل ثامر  أن ( حياته سجل من تأريخ حافل بالأسرار العميقة ستظل حبيسة عن الأجيال اللاحقة لولا هذه السيرة ...ص17)  وفي العتبة التي تلت المقدمة وبعنوان ( أفق ملون لبياض هذه السيرة “ في سردية الاعتراف” ) يقدم خضير فليح الزيدي مسوِّغات اختياره كتابة سيرة فاضل ثامر ذلك أنه (عاش في مرحلة تاريخية ثقافية غير مدركة من قبل الكثيرين، هي منطقة بكر بالنسبة للتأريخ الثقافي ...هي مرحلة الاحتراق الوجداني لفرسان الثقافة الأوفياء من الذين رُكنوا في الظلال لتأريخ هذا البلد في ظل الديكتاتورية البغيضة..... ص 12) كما كشف الزيدي عن مهمة كاتب السيرة في استنطاق المسرود عنه ليصل إلى منطقة الجرأة والشجاعة في الكشف عن الحقائق التاريخية والشخصية والثقافية الحافّة بسيرة الآخر التي ستتحول إلى سيرة ذاتية عبر ضمير المتكلم (أنا)، ولعل أصعب مهمة واجهت الزيدي هي افتقار السيرة إلى الجرأة في كشف المستور من المعارك الأدبية التي سببت البغضاء بين الأدباء في مرحلة الستينيات والسبعينيات وما تلاها، وإحجام الناقد فاضل ثامر عن الكشف عن الذوات الذين أسهموا في إثارة المواقف المتشنِّجة والمبطَّنة بمشاعر البغضاء والجفاء، وإزاء ذلك فإن فاضل ثامر تجنباً لإثارة مشاعر البغضاء مرة أخرى فقد اكتفى بالترميز حروفياً للذوات والأسماء التي عاصرت الناقد تاريخياً وثقافياً، على أننا نجد أن هذا النزوع واإن تماهى مع موقف فاضل ثامر في تجنُّب التقاطع مع الذوات يُعدّ خروجاً على واحد من أهم شروط السيرة الذاتية ألا وهو الصراحة والشجاعة والمصداقية في كشف الحقائق التي تعرَّض لها صاحب السيرة، على الرغم من الوعد الذي قطعه لكاتب سيرته الزيدي بعزمه على كشف معارك المثقفين العراقيين (الدامية) وأسرارها، وقد وجد فاضل ثامر في عدم ذكر أسماء الذوات في سيرته سبباً أخلاقياً يعكس سجاياه الطيبة النازعة إلى تجنُّب الشخصنة في علاقاته مع الآخرين والمثقفين منهم والكتّاب على وجه الخصوص .
لقد وزّع الزيدي سيرة حياة الناقد فاضل ثامر على سبعة أبواب بدءاً من (جمرة الطفولة) وانتهاءً بـ (جمرة النقد) مُشفِعاً تلك السيرة بثلاثة ملاحق، الأول ملحق (الأبواب السبعة) الذي اتخذ صفة مقابلة حوارية تضمنت العديد من الأسئلة التي تخصُّ موقفه الثقافي والنقدي والتاريخي لمجمل القضايا الأدبية بما في ذلك مناقشة الظواهر الثقافية التي سادت في المشهد الثقافي والأدبي العراقي طيلة ستة عقود كان فيها الناقد الحاضر والشاهد على مجريات الأحداث والوقائع التاريخية والثقافية التي شهدها البلد . فيما كان الملحق الثاني سرداً للتاريخ الشخصي والثقافي لصاحب السيرة بما في ذلك مؤلفاته النقدية، أما الملحق الثالث والأخير فقد ضمنه كاتب السيرة أقوال عدد من النقاد والكتاب العراقيين والعرب ومواقع التواصل الاجتماعي بحق صاحب السيرة، منهم الشاعر عمر السراي والناقد ياسين النصير والناقد الراحل عبد الجبار عباس والروائي جهاد مجيد وغيرهم , وبذلك فقد اكتسب كتاب (القول والقائل) توصيف السيرة الذاتية بالإنابة أو التوكيل، إذ إن المقدمة التي أراد لها كاتب السيرة أن تتضمن مسوِّغات اختيار الناقد فاضل ثامر ليكون صاحب السيرة التي تستحق الذكر، وكذلك الكيفية والمسؤولية الاجتماعية والأدبية التي سيتحملها  عند إجراء الحوارات والمعلومات التي سيحوّلها إلى سيرة تسرد بصيغة ضمير المتكلم، والملاحق  الحافّة بالسيرة الشخصية لفاضل ثامر وتجميعه للشهادات والآراء التي اتخذت صفة الموقف الأدبي من صاحب السيرة، كل ذلك وضعها في منطقة السيرة الذاتية ولا ينطبق عليها توصيفٌ آخر، فهي سرد الذات النيابي وإن توكّل كاتب آخر بسردها، فاستخدام ضمير المتكلم كان كفيلاً بحيازتها لتوصيف السيرة الذاتية، فـ (الغير) في هذه السيرة يتوقف فعله السردي بعدّه (آخر) لمجرد أن يبدأ باستخدام ضمير المتكلم لنكون على إحاطة بأن من يسرد السيرة هو صاحبها لا غير، ولعل ما يتمتع به كاتب السيرة خضير الزيدي من مقدرة على إدارة السرد ومعرفته بما عليه أن يقوم به قد جعل مجريات السيرة ذات منحى أدبي اقترب كثيراً من صيغة السرد الكرونولوجي المتتبع لحياة صاحب السيرة منذ الطفولة مروراً بأهم المحطات والمفاصل الحياتية والحيوية التي شكّلت الشخصية الثقافية والاجتماعية والآيدلوجية لصاحب السيرة، وأجد أن القرابة الآيدلوجية والعقائدية بين الكاتب وصاحب السيرة قد سهّلت من عملية الاقتراب عن كثب من التجربة الحياتية والشخصية لصاحب السيرة، وقد تكشّف ذلك عبر توصيف الكاتب للمحطات الحياتية بـ (الجمرات) التي وجد فيها الكاتب توصيفاً منصفاً للمعاناة التي تحمّل وزرها صاحب السيرة، إذ كان الكاتب منحازاً كلياً إلى جانب صاحب السيرة ومؤمناً بجميع مواقف صاحب السيرة وعلى كافة المستويات، حتى في تلك المواقف التي شهدت تضادّات ثقافية وعقائدية مع المثقفين الذين حايثوا مسيرة فاضل ثامر، وبالإمكان عدّ هذا الانحياز شرطاً بنائياً لهذا النوع السيري، مما أكسب السيرة صفة المصداقية في صحَّة الوقائع والأحداث التي عاشها وعاصرها صاحب السيرة، وهو ما تتطلبه كتابة السيرة الذاتية .
لقد تمكن كاتب السيرة الروائي خضير فليح الزيدي وبما امتلكه من قابلية سردية حازت الكثير من عوامل التشويق ودوافع متابعة السرد الذي شاء الكاتب أن يكون ذا أثر فاعل في معرفة الجوانب الخفيِّة والمهمة في سيرة ناقد امتدّ تأثيره النقدي ومحايثته المنجز الأدبي العراقي والعربي على مدى ستة عقود كان فيها القطب الذي تدور حوله منجزات المبدعين شعراً وسرداً وتقييمها سلباً أو إيجاباً واضعاً مبدأ الموضوعية هدفاً له في تفاعله مع تلك المنجزات، وبذلك وحسب ما أورده كاتب السيرة في الصفحة الأخيرة من كتابه (تُرى هل يحقّ أن نقيم نصباً عملاقاً يليق بسيرة هذا الناقد؟) فإن الناقد فاضل ثامر سيظل محطَّ اهتمام ومتابعة،  ويثير هذا السؤال الذي يُعدّ في ذات الوقت إجابة لما بدأ به كاتب السيرة كتابه في محاولته تقويض المقولة الروسية القديمة التي أكدت على عدم إمكانية إقامة تمثال لناقد، فعبر ما كشفت سيرة الناقد فاضل ثامر المكتوبة بالنيابة وما مرّ به من أحداث ووقائع شخصية وتاريخية وثقافية كوّنت شخصيته الاجتماعية والفكرية والثقافية مما وضعه في منطقة التأثير في حركية الثقافة العراقية والعربية، فكاتب السيرة وهو يوجه هذا الاستفهام الإنكاري للمتلقي على يقين بأهمية أن يقام نصب تذكاري لهذه الشخصية المؤثرة .
لقد أفلح الروائي خضير فليح الزيدي في كتابة سيرة ذاتية نيابة للناقد العراقي فاضل ثامر لدرجة تخليق فواعل الرغبة والاستمتاع في متابعة سيرة ذاتية مؤثرة وعبر أدوات السرد المتقنة التي عُرف فيها الروائي الزيدي .