أ.د عامر حسن فياض
المساواة غير العدالة وكلاهما مطلوبتان معا ولكن اذا كانت العدالة معقلنة بالأصل لأنها لا تقوم على المطلق بل على النسبي، ولا تعتمد الثبات بل على الحركة فإن المساواة التي تقوم على المطلق وعلى الثبات بالأصل كي تكون معقولة ينبغي أن تتعقلن، فكيف الوصول إلى ذلك؟
في إطار المنتظم الفكري يمكن أن نلاحظ الحضور المؤثر لفكرة التضامنية، التي قال بها (ليون بورجوا 1851 - 1925) القانوني الكبير، والذي كان يتمتع بشعبية واسعة بفضل خلافه حول ضريبة الدخل مع مجلس الشيوخ الفرنسي، الذي كان رمزاً للافكار والمواقف المحافظة في فرنسا. وقد حاول (بورجوا) أن يقدم بالتعاون مع (سلستين بوكله) الأستاذ في السوربون يجد مكانه بين اتجاهات الاقتصاد الليبرالي واتجاهات الاقتصاد الاجتماعي، وهو اتجاه منحه (بوكله) بعده الفلسفي، ومنحه (بورجوا) بعده القانوني الذي لاحظ فيه المؤشرات الآتية:
- إن نقص التضامن لأعضاء المجتمع، يبين بأن إشباع عاطفة العدالة، لن يتحقق إلا اذا تساوى ما يعطيه كل واحد منا إلى المجتمع وما يأخذه منه، لكي يحظى قابل التكليف بمزايا اجتماعي يكون الوفاء به شرطا مباشراً من شروط العدالة.
- إن نقص التضامن يمكن أن يحول التضامن الفعلي إلى تضامن قانوني، ليقترن الدّين الاجتماعي بواجب الوفاء به بموجب القانون، ويبرر هذا الواجب قيام المجتمع على (شبه العقد) الاجتماعي الذي يتم قبوله بشكل متبادل، ليكون مفهوم (شبه العقد) الذي قال به (جان جاك روسو) من قبل، هو نقطة الانطلاق في فكر (بورجوا)، حيث يلتزم كل انسان، ومنذ ميلاده، بدين تجاه المجتمع طالما انه يستفيد من المزايا المتحققة بموجب التقدم التكنولوجي والأخلاقي الذي يحققه المجتمع.
وينطوي كل ذلك على التوفيق بين مفهومين هما الفردية، التي تقر بحقوق كل فرد وواجباته من جهة والتضامن الاجتماعي من جهة أخرى، ليصبح التقدم الإنساني ممكنا، وحاله في ذلك حال تقدم أي كائن اجتماعي عن طريق التخصص وتقسيم العمل والتبادل الدائم للخدمات، فلا تعود الدولة أو المدينة مجرد وحدة قائمة خارج الأفراد، ولا تمتلك حقوقا عليهم، لأنها بالأصل من خلقهم وانتاجهم، ما يفرض عليها التدخل لإقامة المساواة بين جميع المساهمين في العقد.. إنها مدير لكل العقود ما يجعلها ملزمة بأن تضمن الدائنين وتجبر المدينين على الإيفاء بديونهم.
ان هذه الدولة المدير تملك بذلك حقا في الحصول على مقابل يدفعه الذين أدارت شؤونهم بشكل جيد، وفي حال رفضهم بوسع الدولة المدير استعمال حقها في اجبارهم على الدفع، والحكام الذين يديرون المشروع الاجتماعي لحساب الجماعة بموجب توكيل أو دون توكيل يملكون دينا واجب الوفاء باسم المجتمع بحكم وجود التزام طبيعي معترف به من قبل كل فرد. ويرى (بورجوا) أن مثل هذه الخلاصة هي نتاج للتوافق بين المنهجية العلمية والفكرة الأخلاقية.
وقد اتخذ (سلستين بوكله) على عاتقه مهمة استخدام علم الاجتماع لتبرير الديمقراطية، التي تبدو في نظره ليس فقط نظاما سياسيا، وانما هي ايضا شكل من اشكال تنظيم المجتمع بكاملها. وقد عالج (بوكله) في كتابه ( الافكار المساواتية) الشروط الشكلية البنيوية التكوينية (المورفولوجية) للديمقراطية، مبينا ان نموذج الجماعات الاجتماعية يصاحبه تقدم في المساواة التي تتجلى افكارها وتتجسد في الأرض الاكثر سكاناً. كما أكد (بوكله) في كتابه (الديمقراطية أمام العلم) أن المساواة أمام القانون هي الحد الأدنى المضمون بالنسبة لكل المواطنين، وأن المطالب الاجتماعية لا تقتصر على المساواة المدنية والقانونية فحسب، بل وتشمل المساواة السياسية أيضا وأن الدولة ملزمة بالاستجابة لهذه المطالبة إن شاءت أم أبت، وإن هرم السيادة قد انقلب بشكل نهائي بعد أن لم تعد السلطة تهبط من السيد إلى التابع، بل تصعد من الشعب إلى موظفين من دون أن يتوقف الامر عند هذا الحد، بل يتعداه كذلك إلى المستوى الاقتصادي حتى باتت المساواة، على حد قوله، كلمة كثيرة الجدوى. وهبطت من أدمغة مبتكريها ونفذت إلى قلوب الجماهير.
وبهذا المعنى يمكن القول بأن المساواتية تبدو في وقتنا الحاضر بوصفها المحرك الأساس للحضارة، لأنها تمثل أولاً كل شيء آخر النتاج الطبيعي لهذه الحضارة، التي لم تعد اليوم حضارة دون أن تكون ديمقراطية بقدر ما تتميز بالمساواتية والعلمية معاً.
فلا يمكن القول اليوم بعدم المساواة بحكم التركيب البيولوجي للناس، اذ فندت المكتشفات العلمية كل ما شاع سابقاً من أفكار عن السلطة والارستقراطية والأعراق، بقدر ما حاول أيضا ربط الديمقراطية بالمنهج الديكارتي، الذي هو تطبيق للمبادئ العقلانية على القواعد الخاصة بالمجتمع، ليخلص من كل ذلك إلى أن جهود الديمقراطية ومنذ لحظة التطور التي نقف عندها، هي التي ينبغي أن تتدخل باسم المساواة في التنظيم المجتمعي، الذي يبدو مثيراً للاهتمام بالنسبة لأولئك الذين يتكلمون باسم العلم..