يوكيو ميشيما.. سقوط الملاك
علي العقباني
مذ شاهدت الفيلم الياباني الذي يتحدث عن حياة الكاتب الياباني الأكثر غرابة يوكيو ميشيما وقصة وطريقة انتحاره المذهلة والعنيفة والصارمة والمثيرة للأسئلة حول الحياة والموت والفكرة والعقيدة، تساءلت كثيراً حول كل ذلك، فبحثت عنه وقرأت بعضاً مما كتبه ومما كُتب عنه، ووجدت أن الأدب الياباني حافل بذلك، بلاد وبشر وأدباء بطريقة فريدة ونادرة أحياناً يصنعون مجدهم وأمجاد بلادهم. عند دراسة قائمة المنتحرين، التي شكلت ظاهرة في اليابان، من مشاهير اليابانيين والذين بلغ عددهم حوالي خمسمائة شخص، أصغرهم هو ماسافومي أوكا الذي انتحر عام 1975، وهو في الثانية عشرة من عمره، وبعد موته نُشرَت أعماله الشعرية تحت عنوان "أنا عمري 12 سنة"، وتحولت بعض قصائده إلى أغانٍ وتم تحويل محتوى الكتاب إلى مسلسلٍ تلفزيوني. وأكبرهم سنًا هو دانزو إيتشيكاوا ممثل الكابوكي الذي انتحر عام 1965، وهو في الرابعة والثمانين من العمر بعد اعتزاله، وربما تكون حادثة انتحار"ميشيما" هي الأكثر شهرة ومعرفة وغرابة.
من المؤكد أنها ستكون الحادثة الأكثر غرابة في تاريخ الأدب الحديث، وربما في تاريخ الأدب عامة، تلك التي حدثت في اليابان ومع الكاتب الياباني يوكيو ميشيما، فلأن كان حدثاً عادياً أن ينتحر كاتب ياباني نال جائزة نوبل للآداب بعد سنوات قليلة من فوزه، وبخاصة الكاتبين الكبيرين كاواباتا، وتانيزاكي، لأسباب بعضهما معروف والغامض منها أكثر، فإنه كان في منتهى العنف والغرابة والاستهجان والتساؤل عن انتحار يوكيو ميشيما، ذلك الكاتب والمحارب الياباني الكبير الذي رشح لنوبل ثلاث مرات ولم ينلها، وكاد ينالها عام 1968، لولا أن اللجنة فضلت عليه مواطنه كاواباتا في اللحظات الأخيرة، وربما يظن كثيرون أنه نال تلك الجائزة بالفعل، فهو كان يستحقها، فقبل ما يزيد عن نصف قرن رحل هذا الرجل بطريقة مسرحية وسينمائية مريعة وغريبة وأثارت ولا تزال الأسئلة الكثيرة حولها.
في ظهيرة يوم 25 نوفمبر 1970، دخل يوكيو ميشيما بصحبة أربعة من رفاقه إلى معسكر قاعدة إبشيغايا، المقر العام لقوات ما يسمى بالدفاع الذاتي في طوكيو، بذريعة اجراء مقابلة مع قائد المعسكر. وما إن وصلوا إلى مكتبه حتى قيدوه رافعين على الشرفة يافطة تحدد
مطالبهم.
وكان ميشيما قد أعد بياناً خطابياً يعرض فيه مطالبه السياسية الوطنية، كي يتوجه به إلى جنود المعسكر، وخطب فيهم حاضاً إياهم على القيام باِنقلاب عسكري هدفه قلب النظام "الموالي للأميركيين"، الذي "أمعن في إذلال الأمة اليابانية" وفي "نسف مستقبلها" و"تسليع كل شيء فيها"، ، داعياً إياهم للتمرد على الحكومة اليابانية آنذاك، ووبّخهم بقسوة على الاستكانة والخنوع وطالبهم بأن يعيدوا للإمبراطور هيبته كإله حي وقائد قومي كما كان قبل الحرب، فكان الجنود منصتين في البداية من باب الذهول، ثم سرعان ما علت هتافات السخرية والاستهزاء حتى طغت على صوته، فانسحب إلى الداخل، وقال: "اعتقد أن صوتي لم يصل إليهم"، فما كان منه إلا أن توقف عن الكلام ليدخل إلى المكتب حيث القائد مكبلاً. لكنه لم يقترب منه، بل شرع في تنفيذ الجزء الثاني من خطته، أي الانتحار بضربة سيف على طريقة "السيبوكو" أو ما يُعرف بطريقة
الساموراي.
وكانت الخطة تقضي بأن يتولى واحد من رفاق ميشيما الأربعة ضربه بالسيف كما تقضي التقاليد. لكن مازاكاتسو موريتا رفيقه في منظمة الدرع، الذي كان يُفترض به أن يكون هو ضارب السيف، "الهايشاكونين"، تهيب الموقف وتمنّع في الثواني الأخيرة.
فما كان من ميشيما نفسه إلا أن التقط السيف مناولاً إياه لرفيق آخر هو هيرويازو كوغا، الذي سدد لقائده ضربة قوية قطعت رأسه، منهية حياة يوكيو ميشيما أحد كبار وعمالقة الأدب الياباني في القرن العشرين، محولاً قصته وحياته وتجربته وربما شخصه إلى أسطورة ما زال صداها يتردد إلى اليوم، وسيُعرف لاحقاً أن ميشيما قد أنفق السنة الأخيرة من حياته بكاملها وهو يحضّر لتلك العملية، التي كان يتصور أنها ستعيد إلى اليابان مجدها، وأسس في سبيل ذلك منظمة يمينية قومية متطرفة، أطلق عليها اسم "الدرع"، وقد صُدم اليابانيون من حادثة الانتحار تلك والطريقة التي تمت بها، وانقسموا بين متعاطف وشامت ومستغرب ومتسائل، ورغم كل ذلك وفي عام 1988، تم تأسيس جائزة ميشيما يوكيو الأدبية تكريماً له، ويرى بعض النقاد ودارسي أدب ميشيما أنه ربما يكون وراء هذا التحول الكبير في شخصية وحياة ميشيما مبرر أفصح عنه بين ثنايا مقال كتبه في عام 1968 قبل عامين من
وفاته.
إذ رأى أنه استهلكه الخيال والكلمات ونال منه الوهن بسبب قلة الفعل والعجز عن تحويل الأفكار إلى واقع، وربما بما يوافق ذلك كتب ميشيما: "اعتقد أن الفعل يسبق الكلام لدى الشخص العادي، لكن في حالتي، يأتي الكلام أولا، ثم بعد كل علامات التردد والتقاعس الشديد والمفاهيم والمبررات الجاهزة، يأتي الفعل، لكن بعد فوات الأوان". وحــاول ميشـيما إعادة التوازن إلى نفسه واستحضر مفهوم الساموراي القديم "بالتناغم بين القلم والسيف". وكان يتمنى أن يصفه الناس بأن "أفعالــه تسبـــق أقواله"..
ويوكيو ميشيما هو الاسم الأدبي للكاتب الياباني كيميتاكي هيراوكا، الذي عاش ما بين عام 1925 و 1970، وقد كان روائياً وشاعراً وكاتباً مسرحياً وممثلاً ومخرج أفلام، ولد لعائلة ثرية وتربى في بيت جدته والتي يقول البعض إن جذورها العائلية ارستقراطية يابانية، ودرس القانون في جامعة طوكيو، ثم التحق بعد تخرجه بوزارة المالية عام 1947، ليستقيل بعد سنة واحدة ويتفرغ للكتابة، واُعتبرت كتاباته المتنوعة المسار الأدبي لتاريخ اليابان، ومن تلك الأعمال المهمة رواية "بحر الخصوبة" والتي يمكن اعتبارها قمة أعمال ميشيما و"بحر الخصوبة" رباعية ظهرت أجزاؤها تباعاً بين 1965 و1970 حاملة العناوين الآتية، "ثلج الربيع"، و"جياد فالتة"، و"معبد الفجر" و"الملاك في
تفتّته".
ولعل التيمة الرئيسة في هذا العمل الأدبي الكبير، هي التقمص، حيث تغيب شخصيات، بل تموت لتعود بين جزء وآخر متقمصةً، تواصل حياة كانت قد بدأتها وقطعها الموت الأول، وربما لتعود وتموت من جديد، وتزخر رباعية "بحر الخصوبة" بالأفكار
الفلسفية.
كتب ميشيما معظم كتابه الأخير "سقوط الملاك"، أثناء رحلة مع عائلته على شاطئ البحر في عام 1970. وفي خطاب بتاريخ 18 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1970، كتب إلى أستاذه ومثله الأعلى "فوميو كيوميزو": "اعتقد أن نهاية الكتاب بالنسبة لي هي نهاية
العالم".
وبالإضافة إليها هناك "الجناح الذهب" و"هدير الأمواج" و"اعترافات قناع"، وبخاصة هناك "البحار الذي لفظه اليم"، وهي أعمال عُرفت على نطاق واسع وتُرجمت إلى عديد من اللغات العالمية، ومنها العربية التي ترجمت "هدير الأمواج" إليها منذ وقت مبكر، وذلك قبل أن تتنبه
لجنة نوبل وترشح هذا الكاتب والشاعر المسرحي والممثل والمخرج السينمائي أيضاً، لجائزتها مرات عديدة غير متوجة إياه على أية حال في أي من تلك المرات، حيث رشح ثلاث مرات للحصول على جائزة نوبل في الأدب، فكان اسمه معروفاً على نطاق عالمي، ويعد من أشهر الكتاب اليابانيين في القرن العشرين، وقد مزجت أعماله الطليعية بين القيم الجمالية الحديثة والتقليدية للمجتمع والأدب الياباني محطمة الحواجز الثقافية بين الأجناس الأدبية التي كتب فيها ميشيما، وكان الموت والتحول السياسي من أهم محاورها كما يرى الكثير من الأدباء والنقاد الذين كتبوا عنه وعن الأدب الياباني عموماً لتنتهي بذلك حياته بهذه الطريقة الغريبة والمثيرة
للجدل.