جينا سلطان
ما الذي قد يدفع إنسانا بالغا يعيش في دولة القانون والانضباط اليابانية إلى إسقاط هويته الشخصية واستبدالها بأخرى؟ وبالتالي ما هي مسوغات الاستيلاء على ذاكرة مختلفة كليا والتماهي معها على غرار ما فعله بطل رواية "عندما أكون أنا أنت" لجوليان غرين؟ مع الأخذ بعين الاعتبار أن الذاكرة تعادل التاريخ الفردي وتجسد نقطة الاستناد الأساسية لكل إنسان في عالم يموج بالمتناقضات المتكئة على التهميش والاستعلاء والغرور.
يجيب الروائي الياباني كيئتشيرو هيرانو في روايته "لا أحد من الرجال" على هذا التساؤل وفق منحيين أساسيين، الأول يتعلق بالتنمر الذي ينخر المجتمع الياباني، ويعد امتدادا طبيعيا لأزمنة التسلط الإقطاعية المدعومة بسيوف السامواري. أما الثاني فيتعلق بأصحاب الجنسية المزدوجة، الذين يطلق عليهم اسم المقيمين، ويعودون بأصولهم إلى اللاجئين الكوريين والصينين. وبالتالي تغدو العنصرية المضمرة في المجتمع الياباني الوجه الآخر للتنمر والإقصاء، رغما عن أنف القانون الذي يكفل لجميع المواطنين حقوقهم الإنسانية. لذلك لا يتبقى أمام الضحايا سوى تبادل الهويات مع بعضهم البعض، لينجو بما تبقى من إنسانيتهم، فيحققوا نوعا من العدالة الاجتماعية الكامنة في صلب مبدأ القناع، والذي يحتل مساحة واسعة من الثقافة اليابانية. اضطراب فكري يتأتى عن أزمة منتصف العمر، يدفع المحامي الياباني من أصول كورية أكيرا كيدو لاستعادة ذاكرة مذابح الكوريين أثناء زلزال شرق اليابان، ويضعه أمام مأزق الهوية، الذي يتجذر في شخصيته كمقيم محاصر بتزايد دعوات اليمين المتطرف لطرد الأجانب. ويصبح قلقه المتعاظم مفهوما إزاء لاجدوى القانون وتفريغه من فاعليته عند تصادفه مع الأزمنة والأمكنة المدمرة بشكل استثنائي، فلن يهتم به عندئذ المحرضون، الذين يصرخون بوقاحة في قارعة الطريق وفي وضح النهار "اقتلوا الكوريين". مما قد يعني أن قتل الكوريين يغدو أمراً قابلا للتنفيذ في أي وقت من الحياة اليومية العادية جدا، فيما لو استثار صوت التظاهرات أحدهم وفكر فيه فجأة. ولذلك، وكي يتخطى متلازمة الخوف من الزلزال، شارك كيدو في النشاطات التطوعية لتقديم دعم قانوني للمتضررين من الزلزال.
يجتهد كيدو كمحام للحفاظ على القانون، لأنه يجعل حياته اليومية واقعا، لكن انتحاله لشخصيات موكليه كأمثال دايسكيه تانيغوتشي، بذريعة الحفاظ على اتزانه النفسي بواسطة محاكاة معاناة الناس وعذابهم، يكشف هشاشة الأرضية التي يستند عليها. فتصبح السيرة الذاتية المختلقة المرتبطة بمكان وزمان محدودين مختزلة في تعبيره: "إحساس أن تكون صادقا بفضل الكذب". نلمح أثر هذه الفكرة في سلوك الشخص المجهول الذي انتحل هوية المدعو دايسكيه، وبقي يواظب على رسم لوحات بسيطة تعكس براءة طفولية مفقودة، لا يتسامح معها النضج. فتتساءل صاحبة المكتبة ريئه التي ستقترن به لاحقا، عن ماهية الحياة التي يمكنها أن تتقبل بهدوء وسلام رسم العالم بتلك الهناءة. لذلك يترك موته المفاجئ بعد ثلاث سنوات من الزواج العديد من الأمور العالقة، كمسألة الدفن وحق الميت في استعادة اسمه، كي ينادى عليه، عند زيارة القبر. وهو ما دفع المحامي للتنقيب طوال عام عن الاسم الحقيقي لزوج موكلته ريئه، والذي سلط الأضواء على قصة التنمر، التي عاش في ظلها حتى لفظ اسمه وتبرأ من لقبه العائلي بعملية انتحال هوية مزدوج.
يسلط المؤلف الأضواء على تداعيات ظاهرة التنمر لدى اليافعين، من خلال شخصية المنتحل لهوية دايسكيه، ويدعى ماكوتو الذي وجد نفسه في الثانية عشرة من عمره، ابنا لسفاح قاتل. وتحول بفعل جريمته إلى ضحية للمتنمرين، بعد أصبح العنف هو المنطق والحجة، مما وضعه أمام مفترق طرق، فإما التحول إلى متنمر أو الاستغراق في جلد الذات. فنهض حافز إيذاء النفس في داخله طلبا للألم الذي يخفف من وطأة مشاعر نفي الذات، واختار ممارسة الملاكمة، بسبب كرهه للبقاء في الظل من جهة، ورغبته في السيطرة على حافز العنف لديه من جهة، أخرى. وحين نجح في اختبار المحترفين من المرة الأولى وأوصله فوزه ببطولة شرق اليابان للمبتدئين إلى المباراة النهائية بالضربة القاضية، انسحب عبر إلقاء نفسه من الطابق السادس، بسبب شعوره بعدم الاستحقاق. وهذا الشعور يماثل معاناة مرضى اضطراب الهوية الجنسية المتمثلة بعدم توافق الجسم مع الروح.
بالمقابل، ثمة نمط مختلف لكراهية الذات ينتشر على شكل اكتئاب منتصف العمر، الذي يحتم على أمثال المحامي بذل جهد أكبر في حياته العادية من أجل تجميع أدلة على أنه ليس إنسانا مريعا. لذلك شعر كيدو أن تشرب حياة إنسان آخر من خلال صوته الطبيعي، وتجربة ذلك من الداخل يمكن أن يكون نوعا من الهوايات، وبمعنى أدق لعبة ذات مذاق حار مفعم بالعار. وأمام إلحاح سؤال الهوية والذات، وقلق الوجود، والأمان الوظيفي عقب صدمة الزلزال، وجد نفسه ينتحل في البار حياة دايسكيه أمام النادل مقلدا على سبيل اللهو، والذي انتحل شخصية دايسكيه.
استطاع كيدو من خلال تلبس حياة الآخرين لمس حياته الشخصية، ومعاينتها، ونجح في تجاوز مأزق المعاناة المتأتية عن وجود ليس له أي ضمانة أو حماية مطلقا، فتلك المسافة تعطي قدرًا من الأمان. على غرار ما حصل مع الملاكم الذي تزوج من ريئه، وتبنى ابنها اليافع، وأصبح له أبا مثاليا، ترك بموته فراغا كبيرا في نفس المراهق، جعله يحسد أخته غير الشقيقة على هبة
الأب. ووفق المبدأ نفسه يمكن أن نلتمس الغاية من القناع في اليابان، البلد المثقل بأعباء المثالية المطلقة والانضباط الصارم في العمل، الذي يدفع العمال والموظفين المستنزفين من الارهاق للانتحار. لذلك ابتدأ المحامي الياباني من أصول كورية خطابه في بداية الرواية بالحديث عن قضية الشاب، الذي انتحر بسبب الاجهاد، ووضع نقطة الختام بها أيضا حين أصبحت قضية رأي عام.