الفلسفة والأدب.. قطةٌ سوداءٌ لا وجود لها

ثقافة 2024/10/31
...

   حسن الكعبي


تنطلق بعض التصورات، ومهما اختلطت بالمعارف الحديثة من أفق دوغمائي منغلق يرتكز على قاعدة ثابتة تدعي امتلاكها للحقيقة، وتعمل على نفي تصورات الأفق الآخر، سواء كان ذلك الأفق دنيويا أو دينيا، مخالفا لها في لها التوجه الأيديولوجي والمذهبي، وهذه التصورات النافية أو الحاكمة بنفي التصورات المخالفة، تتجسد بمقولات هي بمثابة أحكام على منجزات الآخر. وهذه المقولات مثل "هذه المعارف لاطائل تحتها" أو "هذا العلم لا يضر ولا ينفع" أو "من تمنطق فقد تزندق" أو.. الخ، من المقولات التي تأتي ضمن سياق نفي أو تحريم أو تجريم أي علم أو معرفة أو ممارسة ثقافية أو ادبية لا تنطلق من أفق هذه الأحكام المضادة.

إن هذه المقولات التي تؤسس لتضادها مع العلم بمجمله ومع الفلسفة والأدب والفن تشترط صلاحية العلم أو الفلسفة أو الأدب والفن في حال صدورها عن فضائها الأيديولوجي، وبخلاف ذلك فان كل العلوم والمعارف يحكم عليها بالبطلان، لكن الاشكالية لا تكمن في هذه التصورات الدوغمائية، وإنما فيما يصدر من الآراء والتصورات المشابهة والتي تدعي ارتباطها بالعلوم الحديثة. يمكن أن نؤشر في هذا السياق عددا من المقولات الدائرة في الحلقة الدوغمائية والمنتشرة في بعض المواقع الاليكترونية أو منصات التواصل الاجتماعي، التي بدأت تتشكل ضمن السياق الثقافي وتنتج خطابات لا تقل أهمية عن الخطابات الثقافية أو الأدبية، كما لا تقل خطورة عنهما في سياق تحولها إلى متنفس للمقولات البلهاء الممثلة بهذا النوع من العبارات المجانية "الفلسفة تبحث عن قطة سوداء لا وجود لها" أو "زمن الفلسفة انتهى" أو "إن العرب قاموا بترجمة الكتب السيئة وغير المهمة في أغلب العناصر المترجمة، وانشغلوا في غالب الاحيان بالأدب، رواية قصص، نصوص شعرية، كتب نقد لا تنفع ولا تضر..".

التصدي لمثل هذه المقولات هو ضرورة تلقى على عاتق الخطاب النقدي، لأن هذه المقولات تستعيد تاريخ الدوغما في كراهياتها وعدائيتها للعلوم والآداب الإنسانية بتمثيلاتها الحداثية. فالاقتران القرائي بهذه المقولات يفضح البطانة العدائية للعلم والفلسفة والأدب بتجلياتها وتمثيلاته الابداعية. فمقولة إن الفلسفة تبحث عن قطة سوداء لا وجود لها تحاول أن تؤشر عمى الفلسفة ولا جدواها في البحث وهي عبارة متهافتة ومتناقضة في سياق اثبات الموضوع ونفيه، في الآن ذاته فهي تثبت وجود القطة السوداء وتقر بعدم وجودها في الآن ذاته. فلو إن العبارة تشير إلى بحث الفلسفة عن العنقاء مثلا، لكانت أكثر استقامة باعتبار أن العنقاء تدخل ضمن المدار الاسطوري. وبالتالي فإن وجودها لفظي متخيل أو تصوري، لكن القطة وجودها واقعي تصديقي، وهو ما يسمح بإدخال المقولة ضمن حيز التناقض، وبالرغم من هذا التهافت إلا أنها حظيت بمقبولية من أصحاب بعض الاختصاصات في المجالات العلمية الحديثة، وأما المقولة الأخرى فأنها تنتج الدلالة ذاتها في محاولة اثبات لا جدوى البحث الفلسفي.  تظل المقولة التي تقضي بعدم اقدام العرب على ترجمة الجيد من كتب العلوم الحديثة واقتصارهم على ترجمة "الاداب التي لا تضر ولا تنفع"، هي الاكثر تمثيلا للمجانية والتهافت والاستهانة بتاريخ الابداعات العربية على مر التاريخ، لكن وعلى الرغم من مجانية هذه المقولات وعدم فاعليتها في اختراق الوسط الثقافي الواعي الا انها بالإمكان أن تؤثر في الأوساط التي بدأت ثقافتها تتشكل في سياق مواقع التواصل الاجتماعي والتي يعد أكثرها شيوعا وأكثرها تأثيرا وتداولا "الفيسبوك". ولذلك يغدو من الضرورة أن توجه الخطابات النقدية بوصلتها باتجاه هذه النوعية من المقولات المنتشرة بكثرة على صفحات مواقع التواصل، وهي تبشر بنشر ثقافة اقصائية تستهين بتاريخ كبير من المعارف والعلوم والآداب الابداعية، التي كانت الأساس في تشكيل هوية انسانية وثقافة تعايش سلمي انبثقت عنها مفاهيم الديمقراطية والحرية ومفاهيم العدالة الاجتماعية والمدنية المتحضرة.