ربما سيكون الحديث مختصرًا عن مفهوم القناعة الطينيَّة، لأنها من المجالات التي تغذي فلسفة أي تصور عن الأفكار، بأنْ تعود بتفكيرك إلى الجذور، الطين جذر الإنسان، ومن هناك تعيد بناء العالم، وكلما تغيّر هذا العالم وتجدد، تجد لك عذرًا بالعودة إلى تلك القناعة الطينية المترسخة في اللاوعي الجمعي عن أهمية أشياء البديات في خلق العالم، وستجد الأمر أكثر سهولة عندما ترفق مع هذه القناعة قولًا لمجتهد، أو متطلع بأمور السماء والطبيعة.
إنَّ ما يتيح لنا تأكيد مثل هذه المرجعيات، هو أنَّ الحياة بمجملها ابتدأت من خلطات الطين الأولى، التي أصبحت العجينة الكونية كما يقول نيتشه، والتي خلطتها ألف يد لبوذا، لتصيِّر منها مخلوقات الأرض والسماء المختلفة. فوسع هذا المجال لنا أنْ نضيف له قناعات أخرى، قد تكون نابعة منه، أو ملحقة به، قناعة الخميرة، قناعة الطين المعجون بأعشاب الحنطة، العجينة القيرية الممتزجة بالماء الأسود، ألوان الطيف، ألوان رسام خبير. ولكن سرعان ما تفرغ القضايا من محتواها،عندما تربط لجام فرسك إلى وتد قلق.
ثمة قناعات أخرى تناولتها الفلسفة عبر تاريخها المشحون بالأفكار والاحتمالات، عن القناعات الأولى لعجائن الكون، ما اعتقده الفلاسفة أنَّ الماء هو المادة الأساسيَّة في الكون “طاليس المليني”، واعتقد طاليس أيضًا أنَّ المحسوس هو المادة الأساسية للكون، والماء محسوس، واعتقد أناكسيمندر ان اللامتناهي واللامحدود هو الأساس المادي للكون، واعتبر اناكسيمندر أن المادة الأساسية للكون هي الهواء، واعتبر الفيثاغوريون أن الهواء النهائي (الفراغ الفضائي) هو المادة الرياضية الأساسية للكون، واعتقد ارخيتاس الذي انفرد بالتمييز بين المكان والفضاء. أنهما معًا يؤسسان الوحدة الكونية، بينما اعتبر هيراقليطس، النار المادة الأساس للكون، واعتبر بارمنيدس أن الكون مطلق ودائم ومفرد، اي هو “الكينونة”، واعتبر أفلاطون أن العناصر مرتبطة ببنيات فضائية، محددة. هكذا نجد الفلسفة تمعن في توصيف العجينة الأولى للكون، ولم تنزل اية فكرة للطين، لم يقل أحد إن التراب أصل الكون، التي منها تشكلت العجينة الأولى لخلق العالم، وثمة من اعتقد ان الهواء ثماني التركيب هو الذي بدأ بتحريك أجزاء الكون ليصيِّر منها هذه التراكيب المختلفة التي يطلق عليها الكواكب والنجوم، والحياة ومنه تكونت الأشياء وإليه تعود مندمجة في تياره الجارف.
لا بأس من أنَّ كل الاجتهادات يمكنها أن تصبح معتقدات، ومن الخطأ أن نقف عند واحدة دون أخرى، ففي كل عنصر تجد بقية العناصر بتشكيلات مختلفة لبنية علنية أو مضمر، يمكن أن تتحدث عن النار والهواء، أو التراب والماء، أو الماء والهواء، أو التراب والنار، وتستطيع بمخيلة نشطة متجاوزاً المعادلات السطحية للوعي المباشر، أنْ تبني مدنًا متخيلة، وأنْ تسافر وأنت في مكانك، أو أنْ تعمل ما تفكر به من دون أنْ تتحرك من سرير نومك. هذه الكينونة الخياليَّة ليست بمعزل عن تفاعلات هذه العناصر، ولا هي عالمٌ آخر يقتحم عالم العناصر ليشيد منها بيتًا سرعان ما يتحول إلى غيمة كما في قصص الأطفال، أو بركان أو بستان أو صحراء. المخيلة وحدها كانت الملغاة عندما فكر الفلاسفة الميليين قبل ستمئة عام قبل الميلاد بولادة هذه العناصر، ونسوا أو تناسوا أن عنصرًا سادسًا هو المخيلة المبنية من خيالات المادة، هي التي فصلت بين العناصر، عندما تكون هناك رغبة حقيقية في خلق عوالم متخيلة.
ما عنيته بالقناعة الطينية، لا يتعلق بالطين، الذي خلق منه آدم، ليصبح المخلوق الغيباني لبقية المخلوقات، إنما عنيت أن لكل عنصر عجينته الطينية وعجينته المائية وعجينته الهوائية وعجينته الناريَّة، كل هذه العجائن تختمر في بعضها لتنتج لنا مخيلة ترى في الأشياء جوهر الخلائق، وفي الصورة الكونية مجموعة من تكويناتها، وترى في النصوص الإبداعية تجاوزًا لا حدود له على أي تصور صياني واقعي يوقف المخيلة عند فهم سابق للطبيعة، لذلك، ما أعنيه بالقناعة الطينيَّة، هو أن يكون تصورنا عن الأشياء قائماً على أنها وحدها من تخلق كائنات إبداعيَّة وتشكيليَّة غريبة عن صناعة أيدينا، تلك هي النصوص التي نكتب، لعلَّ المخيلة الشعبية والأحلام والهلوسات وخيالات الشعراء، والهذيانات هي العجينة الطينيَّة التي تخلق القناعة بأننا بشرٌ، قادرون على تنشيط المخيلة بغير مداراتها القديمة.
في قراءات مختلفة، وجدت أن السفر مثلًا، وكما يعتقد أنه “يهزم المسافة”، أي يهزم أي تشكيل مادي بين الأشياء، لكنه في الحقيقة يقوم في نسبية المسافة، كما تصوره أنشتاين، وكأنَّ العالم هو هو من غير ان تخلق المسافة له كينونة. وعندما نفكر أن مهمة السفر محددة بهزيمة المسافة كما يقول جورج بيريك في كتابه (فصائل الفضاءات)، ص 74، نعتقد أننا محونا الزمن، وأبقينا على المكان.”كم سنتيمترًا من كوكب الأرض ستكون قد مسته نعالنا”؟، لا أعتقد أن القناعة في السفر تمكننا من الإجابة عن هذا السؤال، بأننا نسافر في المسافة من أجل قضم المكان.