الفن الاستشراقي.. قراءة في ما وراء حدود الايروتيكا

ثقافة 2024/11/03
...

 محمد طهمازي

برغم كل الزخم اللوني والموضوعي لمدرسة الاستشراق الفنية نجد أن الجانب الأنثوي هو الآخذ بديناميكية هذه المدرسة. وأقول إنها مدرسة برغم ما يراه آخرون من أنها جزء من مدرسة أو مدارس أخرى.. كونها شكلت تغييرا كبيرا ولافتا في أداء الفنانين اللوني والانشائي وانتقالة ملحوظة في تشكيلات الضوء والظل وحتى رسم المشاهد في جوف ظلام الليل.
لقد سعى فنانو الاستشراق الغربيون لأن يجعلوا من العالم الشرقي باحة خلفية لعالمهم الغربي، وعالمهم هنا ضيق تزحمه الرغبات الحسية المقموعة والمؤسسة على رؤى بعيدة كل البعد عن الجانب الجمالي للايرتيكا أو الجنس لذلك فقد قام الفنان المستشرق بعملية إعادة إنتاج عالم المشرق، وليس كما رأوه ولمسوه، بل بالصورة التي تتناسب ومتلقيهم الغربي الجائع للتلصص على النساء المحليات وأكثر جوعا وشراهة للتلصص على النساء الأجنبيات في عالمهن العاري المشبع بنقاء ورومانسية غريبة عن همجيته، مثلما هو متعطش للألوان الصافية المتوهجة النظيفة. فذلك الشرق ورغم محاولات الفنانين آنذاك تحويره احتفظ بقوته السحرية الخفية التي لليوم تحافظ على حيويتها في المخيلة الفنية الغربية. لقد فشلت مساعيهم في جعله خشبة مسرح ملحقة بأوروبا على خلاف ما قاله أدور سعيد، ذلك أن مسرحة الغرب لا يمكنها في أوج صعودها تجاوز أعمال شكسبير المتأثرة في الأساس بالشرق، بينما نجد أعمال المستشرقين من الجمال والحيوية وحتى العفوية ما تتضاءل أمامها خيالات شكسبير.
كان الغرب في تلك العصور يشكو من حالة متضخمة من الكبت الجنسي وبالتحديد في جانبه المتخيل حيث أن رؤاهم للجنس كانت مقيدة مشوهة متقولبة في صندوق من البدائية على عكس ما يحاولون اليوم إظهاره من قلب للحقائق الجنسية. صحيح أن الغرب ألقى رؤيته الاباحية البدائية علينا بيد أنه في ذات الوقت سرق رؤيتنا الجنسية المستمتعة جماليا، وألقى بنا في أحضان النسخ الدينية وحتى العلمانية المستنسخة عن عصوره الوسطى، ليعيدنا إلى النقطة صفر جنس بعدما كان الشرق قد هضم مجموع التجارب الجنسية لحضاراته القديمة.
 إن الفنان الرحالة المستشرق لو نظرنا إليه بتجرد من ناحيته البشرية لوجدناه كائنا يعيش في بلاد غريبة يعاني من الحرمان الجنسي دون زوجة أو عشيقة الأمر الذي يغذي بقوة مخيلة الشبق لديه وهي مخيلة من الأساس تفتقد إلى الإشباع الجنسي تحركها في العمق الأفكار الذكورية للفرد الأوروبي كنموذج للبدائي الذي يتوق للسيطرة على الأنثى وأي كائن أضعف منه وهذا لربما يمنحنا صورة لجذور الدوافع التي تحكمت وتتحكم بسلوكيات المستعمر الغربي كفرد وكدولة تجاه الدول والشعوب والمجتمعات التي تستضعفها وتستعمرها. هنا تبرز اللوحة الاستشراقية الايروتيكية كميدان تفريغي لمركبات النقص للفنان والمتلقي الأوربيين على حد سواء فيشعران نحوها بأحاسيس حميمة هي خليط بين الانتهاك والاحتفاظ بالأشياء النادرة.
كانت الأجواء الشرقية غريبة كل الغرابة عن الأجواء الأوروبية بجانبيها الإنساني في بنية الحياة الإنسانية في مجتمعاتها وما إليها من طقوس وملبس ومأكل وعمران إلى الجانب الطبيعي بإضاءته ونقاء ألوانه وطبيعته الجغرافية، وما بين كل مفاصل وتشعبات وتفاصيل ذلك. وهذا يعني بالتأكيد أن هنالك تمايزا عظيما بين عالم الفنان الغربي برغم كل ما يشكل لديه من تراكمات عصر النهضة وما تبعه، وبين العالم الشرقي بكل إرثه الحضاري والتراثي وعمق ومتانة بنيته الاجتماعية وتفاصيل حياته وطقوسها شديدة القدم. وبرغم السبق الحضاري او ما تبقى منه في العالم الشرقي المبني على تراكمات وأنقاض حضارات عظيمة إلا أن الفنان الاوروبي كان يحاول بقدر ما يستطيع أن يقلل من شأن الشرق ليس فقط من أجل اعلاء شأن الغرب بل بالدوافع الخفية التي تحركه داخل عقله الجنسي والنفسي الباطن لتشعره بالرضا وربما الراحة وهو يضع هذا النسيج الحضاري والمجتمعي داخل بوتقة الغريزة الجنسية التي سيمتلكها هو وينقل ملكيتها لمن يدفع ثمن اللوحة، وثمن هذا المحتوى الغرائزي الجاذب بقوة، ويفرغه بالمقابل من كل شيء آخر. ترى هل نجح في ذلك؟