سيرك: تغريبة إنسانيَّة
د. كريم شغيدل
في عرض "سيرك" لجواد الأسدي وإنتاج دائرة السينما والمسرح، نحن أمام بنية واحدة متكاملة يصعب تفكيك عناصرها على انفراد، وكأنَّ صانعه أو كما أظن كان يؤسس لعرض مسرحي ولم يكتب نصاً أدبيّاً بمعزل رؤية العرض، يكتب وفي ذهنه أو أمامه هيئة الشخصية، وطريقة أدائها، والفضاء البصري من علامات وضوء وإكسسوارات، فضلا "سيكربت" خريطة الحركة، ومن خلال ذلك قدم تغريبة مسرحية عالمية/ إنسانية بإسقاطات واضحة على الواقع، ليس الواقع المحلي أو العربي فحسب، وإنما على الواقع البشري.
وأعني بالتغريبة ذلك المزيج الشفاف بالاقتراب من عدة عوالم ومناخات وأمكنة تحيلنا إلى تشيخوف وإلى مسرح القسوة والغضب، وبين الواقعيّة والتعبيرية وصرامة الإمساك بالإيقاع النفسي والانفعالي للشخصيات والأحداث وتوظيف ثنائية الحضور والغياب تمكن الأسدي أن يفرض سرديات متشعبة بطريقة حاذقة لم تنجُ من الخطابية السردية التي أملتها الضرورات الدلالية، بُني النص على خطوط سردية استرجاعية عن غائبين تسير إلى جنب الحوار الدرامي الذي يحتدم ويبني عقد الصراع التي ينبغي أن تكون آنيّة وقابلة للتحول، لكن الأسدي استطاع ربما بخبرته أن يسرق المتلقي ويأسره ويجبره على الإصغاء لتلك السرديات التي لم تتجسّد أحداثها أو شخصياتها، كسرديات الكلب دودن، وسرديات الضابط ومعتقله الرهيب، وإلقاء "كميلة" لقصيدة محمود درويش "لماذا تركت الحصان وحيداً" أمامه واغتصابه لها أو اغتصاب تلك الفتاة المعتقلة، وحادثة الضابط مع الكلب، وعشق "لبيد" لـ "كميلة" ونهاية حياته مع زوجته، وذهاب الكلب مع المرأة العمياء، وتفاصيل أخرى ترد على لسان الشخصيات، وهنا نتساءل: كيف لنص مسرحي أن يحتمل كل هذه السرديات؟ التي لا يمكن أن نقول عنها جانبية أو عرضية، وإنما هي أساس البناء الدرامي، كيف يتسنى للغة الحوار المسرحي بسماته المعروف من اختزال وتكثيف وآنية أن تسرب كل هذه السرديات دون أن يتململ المتلقي؟ في تقديري أن الأسدي مارس لعبة ذكية في جعل تلك السرديات مقبولة من خلال عملية تفجير المشاهد، أي أنه كان يقدم مشهداً مكتنزاً لغوياً وبكثافة عالية وبتنوع حواري جدلي يمسك بالخيط الدرامي بقوة ثم يرخيه قليلاً ليسرب لنا تلك السرديات بجعلها جزءاً من الحدث الآني، وبلغة مكثفة بلمسات شاعريَّة.
الهيكل الأساسي للنص يقوم على خمسة أركان هي: الكلب دودن: وعادةً ما يُحيل إلى معاني الوفاء والإخلاص والحراسة، وهنا هو كلب سيرك موهوب ومتميز وأيقونة في مسرح السيرك. ريمون: أنموذج المستلب الخانع لقسوة السلطة، الجشع الانتهازي الضعيف الذي لا يتوانى من سحق الآخرين رمزياً كما كان يفعل بالكاتب لبيد، أو حقيقة كما فعل بكلبه المتميز إرضاءً للسلطة، مستغلاً ومضحياً بشريكة حياته كميلة، لبيد: كاتب فاقد لقواه الرجولية والإبداعية فيعيش وهم الفحولة والذكورية والكتابة يعشق الممثلة كميلة عن بعد. كميلة: ممثلة مخلصة في عملها تتعرض أسوة بالآخرين لقمع السلطة والاغتصاب. الضابط: وهو رمز السلطة الغاشمة. ومسرح الأحداث هو السيرك الذي يرمز للعالم بكل ما ينطوي عليه من أحزان وأوهام وجدية وتفاهة وحيونة وتبعية وتدجين وترويض إلخ. مكان الحكاية مصطبة في حديقة عامة استطالت أشجارها كغابة وامتدت ظلالها من عمق العرض إلى الجمهور الذي أصبح بالضرورة جزءاً من الغابة أو الحديقة بتسميتها المبهجة التي تدعو للتفاؤل. يبدأ العرض من مكالمتين مقطوعتين تلخصان الحدث "احتراق مسرح السيرك" يعني بداية الخراب واضمحلال الحياة وتراجع قيم الجمال والهروب من الوطن وكل ما تخلفه الحروب من بشاعات، وتدريجيا تتكشف التغريبة التي لعب بها الأسدي على بعض الرمزيات من خلال الأسماء، فكميلة اسم عراقي على الأغلب بمرجعية بغدادية، ولبيد اسم عربي بمرجعية تاريخية، وريمون اسم أجنبي وكذلك اسم الكلب دودن، وعنصر التغريب الأوضح هو الحكاية الأساسية "كلب السيرك" فالحكاية لم تكن موروثاً شرقياً، ولا تنتمي حدثاً ومكاناً وشخصيات لثقافتنا، ومن الذكاء أن تكون لها إسقاطات تحيل إلى واقعنا العراقي أو العربي، وواقعاً لم أجد لها مرجعية، لكنها قد تنتمي لحكايات غربية، إن لم تكن متداولة فهي تحمل السمات الثقافية للغرب، وقد كانت تلك الحكاية بمثابة الوعاء الدرامي الذي تدفقت من خلاله أحداث مغايرة تحيل إلى مرارة الواقع البشري، وشراسة السلطة وعنجهيتها وقسوتها وخوف الإنسان وضعفه بسبب ما عاناه من قمع وفقدان لذويه، وانتهاك حياة الإنسان وامتهانه، والخراب الروحي والنفسي والانكسار والخيبة والخذلان، فضلاً عن تغريبة المكان الحديقة التي يتشعب منها السيرك والمسرح والمحطة ولاحقاً بيت كميلة، وبيت لبيد والكازينو.
كان العرض موفقاً في فضائه البصري، وتوظيف العلامات، ورسم تقاطعات الإضاءة على الرغم من قتامة الديكور، وسمعياً كان ينتمي لروح التغريبة التي مثلت رؤية الأسدي وتشظيات الأحداث والشخصيات والأمكنة، وإخراجياً نجح في رسم تقاطعات الحركة الانفعالية والتزاوج بين كتل الفضاء والممثلين الرئيسيين والكومبارس، باستثناء بعض إطالات جلوس الممثلين على مقعدين متقابلين بشيء من الرتابة، وهذا لا يعني أنها لم تكسر في ضوء درجات تصاعد الحدث أو توتر الانفعال النفسي للشخصيات، وكانت توظيفات العلامات من شموع ومظلات وحركة مجموعة الشباب وتغيير أشكالهم ووظائفهم مؤثرة ودالة ومقتضبة في ضوء ما أدته من وظائف جمالية- بصرية ودلالية ودرامية، كما تماهت اللعبة الإخراجية مع التغريبة النصية من خلال تداخل العلامات الغربية كرقصة الفلامنكو الإسبانية، وتوظيف الستارة الحمراء لمصارعي الثيران في تورية جثة لبيد، وكذلك في الأزياء وشكل الأشجار التي تحيل إلى الغابات وليس الحدائق، فضلاً عن الأدوات الأخرى كتوظيف صحني الحساء وتوظيفهما صوتياً بين كميلة وريمون وهو من أجمل المشاهد التعبيرية المؤثرة التي كشفت عن خوف كميلة وقلقها من جهة، وتماهي ريمون مع كلبه ومحاكاته جسدياً، أما أداء المبدعين الثلاثة شذى سالم وأحمد شرجي وعلاء قحطان فقد كان درساً حقيقياً، وربما كان العنصر الأساس الذي وظفه الأسدي بحرفية للإمساك بإيقاع عرض صعب ومركب بطريقة بنائية غير مألوفة، كانوا متناغمين ومدهشين ومنتمين تماماً لمنطقة جواد الأسدي التي تتمحور شكلاً ومضموناً حول الممثل بوصفه مشعل التنوير في الظلام الذي يغلف حياتنا، كانوا كباراً في التحكم والسيطرة والإمساك بجذوة الفعل والانفعال والتحولات النفسية السريعة واستبطان المشاعر المتناقضة للشخصيات، بين التهكم والسخرية والحزن والغضب والرغبة والتماهي، بين الاضطراب والخوف والموقف والرفض في لحظة واحدة، ولم تكن الخبرة دليلهم الوحيد في الاسترخاء والمرونة والتلقائية، وإنما التجديد والاجتهاد والوعي الذي يمنح الممثل حضوراً كارزمياً.
"سيرك" عرض عالمي بكل عناصره، جريء ومدهش ومحفز ومتماسك ومثير للجدل ومحرك لمخيلة المتلقي ووعيه، ويمكن إسقاط أحداثه على الكثير من صراعات العالم شرقاً وغرباً، لكن لم يخدمه المكان بشكل مثالي "باحة منتدى المسرح" بمحدودية مساحتها، وأتفق مع البعض من أن العرض انتهى بإسدال ستارة مصارعة الثيران الحمراء على الكاتب الروائي لبيد، إذ جاء المشهد الخطابي الأخير لكميلة "د. شذى سالم" خارج سياق العرض وبمنأى عن حبكة النص الذي تفادى مطبات السرد باختزاليته ولغته.