جديد الشاعر بودلير.. بعد قرن ونصف على وفاته

ثقافة 2024/11/03
...

  مبارك حسني

«لقد كانت مفاجأة جميلة أن أكتشف البيت الشعري. الخط الدي كُتب به هو نفس الخط الدي يطالعنا في الإهداء».
بهذه الكلمات لخصّت السيدة ميرتي ديمونتي، متعهدة الدلالة بدار «أر فالوروم ودروو» المختصة في البيع بالمزاد للتحف، ما وقعت عليه عيناها ذات تفتيش بأحد المنازل العتيقة، وهي بصدد تقييم تركة وراثية. وجدتها في كتاب داخل خزانة زجاجية عتيقة. الكتاب هو نسخة من الطبعة الأولى لديوان «أزهار الشر» الذي نشر سنة 1857، الديوان الأشهر للشاعر، وأحد الدواوين الكبرى في تاريخ الشعر العالمي. الديوان الذي دشَّن الحداثة، ليس في الشعر فحسب، بل في الفكر، وفي الفن، وفي الحياة. مما أحدث ضجة كبرى، لها مكان عالٍ في التاريخ الأدبي.
تصفحتْ النسخة، فوقفتْ على أسطر أربعة للبيت الرباعي، في النظم الشعري الفرنسي، مكتوبة بخط يد الشاعر بقلم الرصاص. وقد كُتبتْ أسفل قصيدة «الحلي» كتتمة لها. وهي القصيدة التي شكلت وقتها مع بضعة قصائد أخرى صكَّ إدانة قضت به محكمة باريسية بأنها تخلُّ بالأخلاق العامة، فطلبت من الناشر والشاعر سحبها من الديوان. هذا الديوان الذي وصفته جريدة لوفيغارو اليمينة حينها قائلة : « هذا الكتاب مستشفى مُشْرعٌ أمام كل الأمراض العقلية، في وجه جميع تعفُّنات القلوب. كان بالإمكان احتماله لو سعى للعلاج، لكنه داء عضال لا شفاء منه». وهكذا، في الصفحة 53، وجدت الأبيات التالية:
«وكنت مُلئتُ امتلاءً بهذه الحقيقة/ هذا الكنز الأفضل الذي يُنعم به الإله على العبقرية/ تعَرُّف الجمال الأرضي في العمق/  لينبثق منه الإيقاع والتناسق»
ولقد تم الوقوف على حقيقتها التاريخية وتأصيلها من طرف أحد الخبراء من ذوي الدراية، هو الكتبي المتخصص إيمانويل ليرميت، الذي قال للمتعهدة في الدلالة  دومنتي :» هي لحظة فارقة، يتوجب عليك أن تعلنيها للملأ». وقد أضاف بأنه بعد قرابة أربعين عاماً من العمل في مجال تحقيق الكتب والمخطوطات، يعتبرُ الأمر «أجمل اكتشاف حدث له. ولعل أبرز دليل هو التشابه ما بين خط الإهداء في التصدير الذي خص به الشاعر صديقه الناقد الأدبي كاستون دو سان فالري، والخط الذي كتبت به الأبيات المضافة».
في واقع الحال، لم تكن الأبيات مجهولة من لدن المختصين في شعر شارل بودلير، ولكنها لم تنشر قط من قبل، وبالتالي لم يتسنَّ أن يطلع عليها القراء. ولذلك سببٌ يقع خارجَ ما هو شعري أو ما هو أدبي. فقد ذكرها أحد المختصين في شعر بودلير حين تكفَّل بنشر الديوان سنة 1961 في طبعة لابلياد الفخمة. ويتعلق الأمر بإيف جيرار لودانتيك.  وكان قد أرسل في أحد أيام سنة 1928 رسالة إلى مالكة هذه النسخة الفريدة طالباً منها السماح له بإضافة البيت الشعري ونشره، متعللاً كما هو منتظر بأنه « لا يجب أن تظل مجهولة للعموم كل حاشية وكل هامش مكتوب، وحتى كل رسالة غير منشورة من قبل، تخص شخصاً من حجم شارل بودلير. فكل ما يتعلق به مهم جداً. وكَشْفُ هذه الكنوز لن يحط من قيمته، بل
يرفع منها كثيرا».
ورغم أن الأبيات لا يرقى الشك إلى أصالتها، فقد تعالت أصوات منتقدة ترتاب في الأمر كله، مشيرة بأصابع الاتهام إلى ممارسة تجارية محضة، خاصة أن عملية بيع النسخة الفريدة، بدأت بمبلغ تراوح بين 60000 و 80000 يورو. وتستند الانتقادات من جهة، على استحالة أن يضيف شارل بودلير بيتاً رباعياً جديداً هو التاسع إلى قصيدة تتكون من ثمانية أبيات رباعية. ومعروف أن الشاعر اعتاد على هذا العدد المحدد. ومن جهة ثانية، فالملاحظ أنه أكثر في الإضافات بتوظيف الأحرف بشكل مُكبَّر في بداية كلمات عديدة، وهو ما ليس معروفاً عن الشاعر، على ما يبدو، في مخطوطاته.  
كيفما كان الحال، يصطبغ هذا الاكتشاف بأهمية أدبية، أقلها إنه سيفتح الباب على مقارنة الأبيات المعروفة مع البيت الجديد. كما يمكِّن من إرساء دراسات تحليلية تنضاف إلى الكم الهائل لما تمت دراسته من قبل. وهنا ينتصب سؤال هام ومشروع: لماذا تمت إضافة هذا البيت إلى قصيدة «الحلي» دون غيرها؟ ما الداعي إلى ذلك؟ وهل لهذه القصيدة بالذات تميزا عن باقي القصائد؟ حين نتأمل القصيدة بشكل متأن ودقيق، نجد أنها تتحدث عن امرأة مدثرة بحِليٍّ لا غير، تختال أمام أنظار الشاعر الذي يجد في مناشدتها بالعين وبالكلمة، مباشرة واقعية، وتناغماً دقيقاً ما بين ما يُشَاهد وما يكتب. وهذا لا يبدو يتقاطع كثيراً وبشكل واضح مع البيت المكتشف.
على كل، لا توجد إمكانية الإجابة بشكل قطعي، فكل قصائد الديوان متساوية القيمة، ومتقاربة في مبناها ومعناها، ما دامت كُتبت بنفس واحد. وهذا طبعاً راجع إلى قيمة ديوان «أزهار الشر»، الذي يسود  فيه مسار الشاعر في منحى يتعمق أكثر فأكثر نحو الهاوية المجسدة في الإحساس الهائل بالعزلة داخل مدينة كبيرة. يتضمن 168 قطعة شعرية كل ما فيها جديد، بدءاً بالشكل الذي لا علاقة له بطرق نظم الشعر في منتصف القرن التاسع عشر، وانتهاءً بجدة الموضوع الذي لا صلةَ تربطه بتاتاً بالشعر الكلاسيكي والرومانسي الذي كان سائداً آنذاك.
تبقى ملاحظة هامة لا بد من الإدلاء بها، وهي أنه توجد في ترجمة عربية لقصيدة الحلي، معروفة لقصيدة الحلي، تمت فيها ترجمة كلمة les Maures الواردة في القصيدة بالبرابرة الغزاة، ويكفي البحث بكل بساطة للتعرف على أن الأمر يتعلق بالمغاربة الذين كانوا يسمون كذلك لدى الغرب.
مقتطف من قصيدة «الحلي» :
«كانت العزيزة الغالية عارية، ولأنها تعرف مدى حبي/ لم تحتفظ سوى بالحلي الرنانة/ هذه العدة النفسية التي منحتها هيئة المنتصرين/التي ترى على وجوه أسرى المغاربة حين يكونون سعداء/عالم الجواهر والأحجار المشعة هذا/ حين يلقي وهو يرقص صداه الحي والساخر/ يملأني انتشاء، فأحب حد العنف /  هذه الأشياء حيث يمتزج الصوت والنور/ كانت إذن مستلقية تستسلم للعشق /وتبتسم فرحاً من أعلى الأريكة/ بعشقي العميق والرقيق مثل البحر،/يصَّاعد نحوها كما لو يصَّعد إلى جرفها/ مثل نمر أليف تثبت عينيها فيّ/ تموُّج جسدها بهيئة شاردة وحالمة،/وتتوحد فيها البراءة والفجور/ حيث كلما تحولت ألقت ألقاً جديداً /..».
* الاقتباسات من صفحة إذاعة فرنسا الثقافية ليوم 13/11/2019