أشواق النعيمي
لم يعد الجسد في القص النسوي حيزا بيولوجيا مخصصا للرغبات وموضعا لإشباع الغرائز والميول، بل اتسع ليأخذ أبعادا اجتماعية وثقافية تزخر بصور الحياة وتمثلاتها، ووعيا يتحسس بمجساته الحذرة مواضع خطواته، ويّقيم علاقته بالآخر والمجتمع. تحولات الجسد في السرد النسوي تبلورت عن هوية اجتماعية متفردة، ترجمت القاصة فوز حمزة بعضا من ملامحها في مجموعتها المعنونة "أمي وذلك العشيق". المنظور الذاتي كان السمة التي غلبت على المجموعة، وإن وظفت بعضها بصوت الأنا الرجل لإيجاد معادلة اجتماعية تطرح من خلالها قضايا المرأة.
تتمحور القصص حول معاناة المرأة بوصفها هوية جسدية رقيقة قابلة للانحناء لكنها عصية على الكسر. تحاول بطلة قصة "رسالة بالصمت" الوقوف متوازنة بين حبال العقل والقلب، فأي حبل ستختار؟ تقول: "أقنعت نفسي بالتنازل عن أحلامي ورغباتي لأجله، الحب من أوحى لي بإخفاء انكساراتي لأبدو أمام أبنائي كما عهدوني، أم قوية، وأمامه زوجة صلبة" القصص بالمجمل تراهن على قوة المرأة في النهوض مهما كانت طبيعة الظروف.
توظف القاصة أسلوب الحوار المنولوجي وهو يتخذ صورا متنوعة ومستويات متعددة. في قصة "الرسول" تنشطر الذات إلى اثنين، الذات وذاكرتها، التي تتنكر بهيئة رسول ناصح، لتفتح رسائل تشكل أهم محاور حياتها، تعود الرسائل لماضي البطلة وحاضرها ومستقبلها، الحوار الصريح أفضى إلى تصالح الذات مع ذاتها. وإلى ضرة افتراضية في قصة "هلوسات ندى" تعاني ندى من إهمال زوجها وتجاهله المتواصل لمشاعرها، فيبتكر خيالها زوجة ثانية تشاطرها الإهمال. تسعى ندى في حوارها المنولوجي، الذي يصل حد الشجار والثرثرة بصوت مسموع عن معاناتها وخيبتها، عن خيانة زوجها، تحاول تبرير أفعاله لتسامحه، فتجيب ذاتها بالصوت الآخر "لِمَ تبررين له وتجدين الأعذار، وأنت تعلمين انه كان مخطئا".
وتختلط في قصة "أنا وبطلات قصصي" مشاعر الحزن والخوف في حوار مكاشفة تستعير فيه الكاتبة أصوات بطلاتها، وتستدعيهم من عالم الخيال إلى الواقع. تعاتب بطلات القصص الكاتبة لتركهن في مواجهة مصائرهن دون إيجاد حلولا تنهي معاناتهن. توثق تلك الأصوات أسوء ما يمكن أن يواجهه جسد المرأة، بوصفه هوية مدانة في مجتمع ذكوري متزمت، الاغتصاب والتشرد والقتل لغسل العار مصائر بطلات القصص التي ألتزمت الكاتبة حيالها الحياد. يكشف الحوار الجدلي عن العلاقة الافتراضية بين الكاتب وشخوصه والمسافة التكتيكية بينهما والحدود الفاصلة بين صوته وأصوات أبطاله؟ ومن يفرض سطوته على الآخر؟
الجسد المعطوب ثيمة الحوار في قصة "فراق" بين البطلة وأحد أجزاء جسدها، حديث حميم من طرف واحد، والمستمع ثدي معطوب في طريقه للانفصال عن الجسد. يحاكي الحوار المتخيل معاناة المرأة النفسية مع فقدان جزء يمثل كينونتها الأنثوية، وكمثيلاتها من بطلات المجموعة، تحاول الاستناد على قوتها الذاتية لتجاوز شعور الفقد المؤلم.
ويمثل الحضور الانطولوجي لجسد المرأة في ثنائية الحياة والموت معادلا موضوعيا للحياة. يحاور البطل جسد زوجته الغائب بالموت في قصة "نومها المقدس" يستدعي الماضي حيث كانت في المنزل، يتخيل زوجته في غرفة النوم، يصغي لحديثها، وقلقها على ابنها الوحيد الذي مات معها، يقول البطل في خاتمة القصة "ينتابني الخوف حين أفكر بإخبارها أن ابننا قد توفي منذ ثلاثة أعوام بحادث سير، لكن خوفي يزداد عندما أتذكر أنها قد توفيت معه في نفس الحادث" ذكر حقيقة موت الزوجة كمفارقة ختامية، رسم حدا فاصلا بين الصور التخييلية والوعي بالموت، تعيدنا المفارقة إلى السرد التهويمي للبطل واستدعائه لجسد الزوجة الغائب ومحاورته للتعويض عن الحرمان في الواقع.
ويحضر الجسد بوصفه سجنا للماضي بذكرياته المؤلمة في قصة "محطة وقود"، حيث تلتقي البطلة بعد سنوات طويلة بالرجل الذي اغتصب جسدها في مرحلة الطفولة، تاركا جرحا عميقا في الذاكرة.
تعالج أغلب القصص موضوع قمع المرأة عاطفيا، مهملة أو مهجورة أو مطلقة. تعيش صراعا بين الاستسلام لواقع السلطة الأبوية وبين رغبتها في تحقيق ذاتها. تحاول الخروج من الصورة النمطية للمرأة المقهورة المستسلمة لتثبت للرجل أنها إنسانة وليست أداة للمتعة أو قطعة أثاث في المنزل. اتخذ السرد من العلاقة بين المرأة بالرجل فضاء للقص، لكنه فضاء محدود كونه بعيدا عن الأزمات الإنسانية، ويعد إقصاء للمرأة عن قضايا المجتمع وهمومه المعاصرة.
من المهم أن تكتب المرأة عن المرأة وتوثق همومها وهواجسها ومعاناتها الحياتية، ولأنها النصف الآخر في مواجهة تحديات المجتمع، لابد أن تشركها في مواضيع هي في الحقيقة جزء منها، فلماذا لا تكون في الخيال أيضا.