بِنْية الرواية والترجمات

ثقافة 2024/11/06
...

ترجمة: جودت جالي






قد يكون كل قارئ لأدب أميركا اللاتينيَّة قد سمع نسخة من نسخ هذه القصة المتعلقة بقراءة ماركيز لرواية (بيدرو بارامو) لأول مرة: كانت السنة هي 1961 وماركيز وصل حديثاً الى مكسيكو ستي، مفلساً مالياً، وغنياً بالطموح الأدبي في الوقت نفسه، ويكافح للاشتغال على  رواية جديدة. كان ذات يوم جالساً في مقهى لا هابانا الأسطوري، الذي قيل أنَّ جيفارا وكاسترو وضعا فيه خطة الثورة الكوبيَّة. دخل خوليو كارتاثار حاملاً نسخة من رواية (بيدرو بارامو) وبحركة رشيقة، كما لو كان يلعب الورق، رمى الكتاب على منضدة ماركيز وهو يقول له: “اقرأ هذه وتعلم”.

قرأها ماركيز تلك الليلة بجلسة واحدة محمومة أرقة. لقد تملك أحاسيسه بعمق ذلك الكتاب النحيل الذي تدور أحداثه في قرية ريفيَّة مليئة بالأشباح وأصداء الماضي، بحيث إنه قرأه مرة أخرى تلك الليلة وأخذ يحفظ مقاطع منه، وأخيراً في اليوم التالي كان قادراً على البدء بكتابة (مئة عام من العزلة). هذه هي النسخة التي سمعتها عندما كنت طالباً، وقد تبين أن فيها بعض الأخطاء، فالمكان لم يكن المقهى بل شقة ماركيز المتواضعة، ولم يكن الشخص الذي أعطاه الكتاب كورتاثار بل ألفارو موتيس، والباقي صحيح. ما أحببته بخصوص القصة ما رواه ماركيز في مقدمة لترجمة جديدة للرواية سنة 1980، هو أنها لا تقول شيئاً عن ماركيز الكاتب، عن ذاكرته الفوتوغرافية والصوتية وحماسه الأدبي الباروكي واعترافه المتواضع بأن هذه الرواية المكتنزة هي التي دلته على طريق العودة الى الكتابة وبالنتيجة جعلت من الممكن خلق رائعته الأدبية. ما أحببته فيها بخصوص ماركيز، القارئ، وبشكل أوسع، ما تقوله بخصوص السحر الذي يلقيه كتاب رولفو على العديد من المعجبين به.

نشرت (بيدرو بارامو) أولاً في المكسيك سنة 1955، وكان رد الفعل الحماسي هو الغالب. قال بورخس بأنها واحدة من أعظم الأعمال، ووصفتها سوزان سونتاغ بأنها أعظم الروائع الأدبية في القرن العشرين، وقال إنريك فيلا-ماتاس عنها بأنها “الرواية الكاملة”، وربما من دونها لم يكن لرواية روبيرتو بولانو (2666) وجود، وقد أظهرت للقارئ كيف يعيد القراءة بالطريقة التي تفعلها (الأرض الخراب) و(يوليسيس) بالتصرف بالقواعد الأدبية بطريقة غاية في المهارة، غاية في التحرر، بحيث يتوجب بعدها على القواعد أن تتغير.

قرأت الرواية لأول مرة في المدرسة الثانوية في المكسيك في صف يسمى (القراءة والتنقيح والتمهيد للتحقيق الوثائقي). كنت في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة ولم يكن الانطباع هو الحب لأول مرة. كان الصف ليس بذلك المستوى. لم أقدّر ما أنجزه خوان رولفو إلا في ما بعد، وقرأتها ومعي آخرون كما يتوجب قراءة الأشياء الصعبة، ببطء، وجماعياً، وبصوتٍ عالٍ، والقلم في اليد، على اختلاف لهجاتنا التي تبدو أن لهجة رولفو قد وحدتها. لم نستطع أن نلفظها بشكل صحيح آنذاك، ولكني واثق بأننا كلنا شعرنا بها، شيء ما بلا زمن وبلا حدود في تلك القصة الفوق - محلية، عن الفلاحين والملاكين خلال الثورة المكسيكية، عن الذين بلا أرض ويثورون ضد أسيادها. إنها قصة عن الاغتصاب والاقتلاع والعنف الجنسي. لكنها في الأساس حكاية رحلتين، أو رحلة واحدة تنفتح اثنتين، الأولى الخيطية هي عن رجل يبحث عن أبيه المفقود. الراوي خوان بريسيادو يذهب الى مدينة والديه بعد وفاة أمه ساعياً الى أبيه بيدرو بارامو المبعد طويلاً. يخطط لطلب تصحيحات ولكن ما يجده هو مدينة أشباح. ثم يموت، وهذا ليس إفساداً للقصة بل تستمر بعد موته كأنَّ شيئاً لم يكن.

أما الرحلة الثانية فهي دانتية: نزول حلزوني الى عالم تحت-أرضي، ولكن بعكس رحلة دانتي المنظمة بجغرافيتها وجماعاتها البشرية فإن رحلة رولفو حسية غالبا ومكتظة بالأصوات وتردداتها التي لا نهاية لها. العديد من القراء الأميركيين اللاتينيين يعرفون الجملة الافتتاحية، ومن هذه البداية نجد أنفسنا في فضاء-زمن غير مستقر نضعه موضع المساءلة وإعادة التعريف فيما نمضي في الرواية قدماً، وبالنسبة الى قراء الإنكليزية فإن الاختلافات الرئيسة بين ترجمتين لسطر البداية تساعد في إلقاء الضوء على هذا الغموض، فترجمة 1994 لمرجريت سايرس بيدين تقول: “قدمت الى كومالا لأني أُخبرت بأن أبي، رجل يسمى بيدرو بارامو، عاش هناك”، وآخر ترجمة لدوكلاس جي وذرفورد تقول: “قدمت الى كومالا لأني كنت قد أُخبرت بأن أبي عاش هنا، رجل يسمى بيدرو بارامو”. إذا كان التبديل من (هنا) الى (هناك) يغير جذريا حيز القصة المكاني (حيث يتكلم الراوي)، فإن استخدام (كنت قد أُخبرت) وليس (أُخبرت) يحول الحيز الزماني الذي يحدد متى يحدث السرد. لا شيء يقع في مكانه في رواية لا يملك فيها المؤلف سيطرة على وضوحها الزمني، سواء كانت تجري في خط زمني مستقيم أو خطوط زمنية متعددة، ففي رواية متعددة الزمن يجب أنْ يكون تسلسل الأحداث محكوماً بمنطق خاص به، منطق تبرره مسائل الكتاب المركزية. إن الاهتمام المركزي في (بيدرو بارامو) هو كيف ينتاب عالمُ الأحياء عالمَ الأموات، وليس العكس، كما في أغلب قصص الأشباح، والزمن له مد وجزر كالموج. إن الرواية ليست دائرية فالدوائر مغلقة ولكنها دورانية. الأموات يعذبهم الأحياء الذين لم يعودوا معهم ولكن ذكرياتهم تشتغل عليهم مراراً وتكراراً، مولدة تياراً تحتياً مطرداً من تذمرات وملامات ودمدمات وثرثرات وهمسات واعترافات هادئة. تمطر السماء كثيراً في (بيدرو بارامو) حتى ليبدو أن الماء هو الذي يحدد انتقالات المكان-الزمان في الرواية. يصبح الأموات قلقين حين تمطر. تقول شخصية عن امرأة مدفونة :” لا بد أن الرطوبة وصلتها بحيث تتقلب في نومها”. يبدأ الموتى يصغون، وكالبذور تحت الأرض يبدؤون يتحركون بقلق، ويدخلون في أحاديث. بينما ينعّم المطر التربة تنساب الأصوات عبرها وتصبح مسموعة.

إنْ كان (أين نحن ومتى نحن) في (بيدرو بارامو) دائم التحول فإن الصوت هو المركبة الرشيقة المتعرجة التي تنقلنا خلالها. الحقيقة أني كنت أتضايق من قراءة (بيدرو بارامو) أو تدريسها لطلبتي بالإنكليزية. لقد استبعد أول مترجم للرواية سنة 1959 جملاً بكاملها منها عادَّاً إياها مبهمة، بينما أضافت مرجريت سايرس عند ترجمتها سنة 1994 العديد من الكلمات لنثر رولفو الصارم، متبعة أسلوبها نفسه في الترجمة لآخرين ومنهم إيزابيل اللندي. لكن الترجمة الأخيرة هي الأفضل.

لقد عدّوا خوان رولفو دون وجه حق كاتباً من كتاب الواقعية السحرية، وأرى أن الأصوب جعله في كوكبة كتاب أمثال اليوت وبيكيت وكافكا، كتاب يأخذون الأدب الى حدود لغتهم ويكتبون بلسان “أجنبي” بحيث يجعلون الغرابة تتسلل الى المألوف ويقلبون اليومي العادي الى خارق. إن كان الرأي القائل بأن ماركيز استعار بكثافة من رولفو مقبولاً على نطاق واسع فإننا نشعر بأن دين كورماك مكارثي له أكبر في ثلاثيته (الحد) لا بل إن آثار (بيدرو بارامو) واضحة في (الطريق) وأكثر من هذا توجد شخصية تدعى (سنيور بيدرو بارامو) في رواية (العبور).


Valeria Luiselli. The new york times book review.