النقد المسرحي العراقي.. إشكاليَّة المصطلح والمفهوم

ثقافة 2024/11/06
...

  د. علاء كريم

القراءة النقدية عملية فكرية يحاول الناقد بوساطتها الارتقاء بالأعمال المسرحية وبيان المنجز الإبداعي عبر النشاط الفكري الذي يعمل على إيصال التحليل والتقييم وما تنتجه قراءة العرض المسرحي. لقد غيّرت جماليات التلقي والتأويل في الدراسات الأدبيّة والنقدية من عملية تفسير وتحليل العرض المسرحي، ومن ثمَّ فإن النقد لا يُعنى بكشف نقاط ضعف العرض وما يتضمنه من جوانب سلبيّة فقط، بل هو يمثل الوعي الفكري الذي يمكن بوساطته الارتقاء بالعرض المسرحي، ومعرفة كل جزئياته، وايضا قراءة النتاج الجمالي الذي يتمكن القارئ من تأويله عبر الفكرة وابتكار الصور الجديدة والبعيدة عما شاهده.

 هنا قد تتحقق التشاركيّة ما بين الممثل والناقد والجمهور، ذلك لأنَّ العرض المسرحي لا يخضع إلى قواعد وآليّات صارمة، فهو منفتح على التحولات الملامسة لحركة الزمن.

تنزاح إشكالية غياب المعرفة في المفهوم النقدي وايضا في آليات استخدام المصطلح إلى الخلط بينهما، والجهل في توظيف وبيان الدلالات التي يشتغل عليها الناقد وفق إطار منهجي محكم يبين ثقافة الناقد ومحدودية خبرته، في ترجمة المصطلحات وتعدد مرادفاتها. في النقد المسرحي العراقي تبدو المشكلة واضحة، وذلك عبر ظهور الاضطرابات التي ترتبط بنمط التعامل مع المصطلحات النقدية أو توظيفها في قراءة وتحليل التجارب المسرحية نصوصاً كانت أم عروضاً. وهذا قد يتعارض مع ما شهده المجال النقدي الغربي المعاصر من تحولات معرفية ورؤى نقدية سعت إلى تجاوز المناهج النصانيَّة ومن ثمَّ إحداث نقلة مغايرة ومتفرّدة في الفكر الفلسفي عند الغرب، وظهور مرحلة جديدة تمثّلت في التفكيك والنقد الذي يحمل آليّات واستراتيجيات مختلفة في البناء والتحليل. إذ يؤكد فيلسوف التفكيك "جاك دريدا" بأنَّ الكتابة تدمر الحضور وتعد تهديداً لنظام الصوت الذي ثبت قواعده سوسير، على اعتبار أن تاريخ الكتابة هو تاريخ التلفظ.

والعلاقة بين المصطلح والمفهوم، لا تخضع إلى الاعتباطيّة التي أشار إليها سوسير، وبين بوساطتها يمكن معرفة طبيعة علاقة الدال والمدلول في اللغة، فالدال والمدلول عند سوسير يقعان ضمن نطاق الإشارة اللغويّة، والتي هي كيان سايكولوجي "نفسي" له جانبان: الدال الذي يعبر عن الصورة الصوتية للكلمة من الناحية السايكولوجية، أي الانطباع والأثر الذي تتركه في الحواس، والمدلول الذي يعبر عن الفكرة في صورتها المجرّدة للكلمة. كما عمل سوسير على رفد الوعي النقدي بالمفهوم والمنهج، فإسهامه اللساني لم يكن مجرد حافز على إعادة اعتبار العلامة اللغويّة وبعدها الوظيفي في بناء النص، ولم يكن مجرد تحفيز لانبثاق وعي احتجاجي ضد القراءات النقديّة السيكولوجية والسوسيولوجية التي عاملت النص وحتى العرض بوصفه مرآة عاكسة، بل عمل على استخراج اللغة من سياقها الوظيفي ومن ثمَّ توظيفها بشكل يجعل من الذات المفكرة ملامسة للنسق الاعلامي. وهذا ما جعل النقد الجديد يرتكز على اللسانيات البنيويّة ويندرج ضمن تيار ما بعد الحداثة.

هناك فهم خاطئ للنقد في العرض المسرحي اليوم، فما نقرأ أو نسمع من نقد بعيدٌ عن ممكنات وتصورات الناقد المتمكن من أدواته، واغلب النقاد اليوم يعتمد قراءات خاطئة للمفاهيم المعتمدة حالياً وحتى المصطلحات في الممارسات التطبيقيّة، فالتجربة المسرحية المعاصرة تحتاج إلى فكر مغاير، ومختلف من الناحية التحليليّة وحتى في استكشاف الأبنية السيميائيّة وجمالياتها، وأيضاً إلى ما يُلامس المعنى الذي يحتاج إلى وعي يمتلك القدرة على فك شفرة العرض، وعليه، يحتاج تحديد المفهوم وأيضاً المصطلح في النقد الحديث خطاب متعالي القيم، يحمل مظهر وجوهر العرض بعيداً عن المسمّيات والعنوانات التي لا تنتمي الى شكل أو مضمون العرض المسرحي، من ثم تؤدي إلى إحداث عشوائيّة في بعض القراءات التي تجهل المعرفة بأساليب العرض ومدارسه النقدية الحديثة، والتي ترتبط مع بعض بعلاقات مشتركة، وتشكل مع بعضها نسقاً واحداً له قانونه الخاص، وهذا ما يميزها عن طبيعة التحولات التي تنتمي إلى أي مؤثر خارجي، وعليه، يجب التركيز على بنية النص الداخلية وعلى مضمون العرض، وعلى فهم اللغة بوصفها تقنية منغلقة مكتفية بذاتها، ورفض جميع المؤثرات الواقعة خارج النص وحتى العرض. 

بإمكان القارئ الرجوع إلى المصادر التي تبحث في هذا السياق ليجد العديد من المقالات النقديّة التي يشير أصحابها إلى أنّهم يهدفون إلى تفكيك النص أو العرض المسرحي، وما إن ينتهي من القراءة حتى يجد أن ما قدمه الناقد ليس إلا انطباعات، أو كتابة إنشائية تستخدم المصطلحات النقدية على نحو عشوائي، وهناك متاهات تضع القارئ في حيرة من أمره، وخاصة إذا كان هذا القارئ فاهماً لهذه المصطلحات وما تنتجه من معانٍ. من ثمَّ قد يكون لكل منا رأيه الذي يختلف فيه عن الرأي الآخر، وهذا قد ينزاح بنا إلى التعددية في التأويل الذي أكد عليه "وول ديورانت" بقوله في كتابه قصة الفلسفة "ان في الجمال آراء بقدر ما في العالم من رؤوس"، والذي حاول من خلاله أن يبين بأنّ النقد هو معادلة تتولد عنها قناعات تنتج الرأي والرأي الآخر، وقد ينشأ عنهما رأي ثالث ورابع وأكثر، نتيجة الرؤى النقديّة التي تحكم المتلقي وتسيطر على فكره، من ثمَّ فإن العديد من العروض المسرحية لا يحسمها إلّا رأي الناقد المتخصص الذي قد يختلف عن كل الآراء، بل وربما يتفق مع أجزاء من بعض الآراء التي تطلق عن الآخرين.