تجلّيات التشابه بين عصري الإقطاع والعولمة

منصة 2024/11/07
...

  عطية مسوح

هذا عنوان كتاب جديد عن العولمة. يعيش مؤلفه جويل كوتكين في مركز العولمة الرئيسي، فهو أستاذ في إحدى جامعات ولاية كاليفورنيا الأمريكيّة، حيث وادي السيليكون، الذي يضمّ كبريات شركات التقانات الحديثة، والذي تتمثل فيه وحدة البنتاغون وهذه الشركات، أي إنه يمثل القيادة الحقيقية للعولمة.
صدر الكتاب في الولايات المتحدة عام 2020، وترجمة د.نايف الياسين إلى العربية عام 2023، ونشرته الهيئة العامة السورية للكتاب. لكنّ جدّة الكتاب لا تقتصر على تاريخ صدوره، بل تتجلّى في اتجاهه ومحتواه، فهو يختلف عن الكثير من الدراسات التي كتبها باحثون عرب، مكتفين بهجاء العولمة وتصوير شرورها الواقعة على الدول والمجتمعات الضعيفة المتخلّفة،  كما أنّه لا يقع في الرغبوية والمبالغة، مبشراً بنهاية العولمة كما فعل المفكر الكنديّ جون سول في كتابه "انهيار العولمة وإعادة اختراع العالم" وكثيرون آخرون، وهو لا يمجّدها أو يراها حتميّة تطورية تحمل
الخير للعالم كله.
إنه يحاول أن يتجوّل في أروقتها تجوّل الباحث الموضوعي المدقق، ويمسك بالجوهريّ فيها، ويرى آثارها الخطيرة على الشرائح المتوسطة والأدنى من السكان.
وإذا كانت العولمة مرحلة جديدة من مراحل تطوّر النظام الرأسماليّ العالميّ، فلا بدّ أن تتطوّر فيها إيجابيّات الرأسماليّة وسلبياتها. هذا هو منطق الكتاب، لكنّ الكاتب يعرف أنّ الإيجابيّات بيّنة للجميع، لذلك ركّز جلّ جهده على أن يبيّن الآثار الفادحة الضرر، وقد دلّ على ذلك عنوان الكتاب، والعنوان الدالّ - كما نعلم - هو مدخل القارئ إلى جوهر الكتاب غالباً، وقد يشي بغايته وبعض أهدافه أحياناً.
يتكوّن العنوان الكامل للكتاب من جملتين، هما: قدوم الإقطاع الجديد - تحذير إلى الطبقة الوسطى العالميّة. توحي الجملة الأولى للقارئ بجوهر الكتاب، وهو أنّ العولمة تؤدّي إلى تبلور طبقة جديدة من النخبة التقنيّة، تستأثر بالنصيب الأعظم من الثروة، وتغدو على التدريج، متحكّمة بالمجتمع تحكّماً كاملاً، كما كان الإقطاع التقليديّ يتحكم في عصر سيادته، والذي يختلف هو أساليب هذا التحكم. ولعلّ هذا المقطع القصير من الفصل الأول تدلّ على ذلك: "مجموعة صغيرة من الشركات، موجودة غالباً على الساحل الغربيّ للولايات المتحدة، تمارس سيطرة محكمة على تدفّق المعلومات وشكل الثقافة. لا يرتدي أسيادنا الجدد دروع الزرد أو قبّعات عالية، بل يوجّهون مستقبلنا بسراويل الجينز والسترات القطنيّة ذات القبّعات".
ويضع الكاتب أمام القارئ تجلّيات للتشابه بين عصر الإقطاع وعصر العولمة، فكما تحقّقت هيمنة الإقطاع على المجتمع من خلال تحالف طبقة الاقطاعيين (النبلاء) ورجال الدين، فإنّ "الإقطاع الجديد" يحقّق الهيمنة من خلال تحالف الأوليغاركية التقنيّة والكتبة. والمقصود بالكتبة رجال الثقافة والإعلام والنشر وأساتذة الجامعات والعلماء الذين يضعون أنفسهم وأقلامهم في خدمة تلك الطبقة التي تقود العولمة. ويوحي الكتاب للقارئ بأنّ التحالف المذكور، ونتائجه التنمويّة، يجريان برعاية البنتاغون، ولخدمة الأهداف السياسيّة والاقتصاديّة للولايات المتّحدة التي تقود العولمة.
أمّا خط تطوّر المُلكيّة العولميّة وتركّز الثروة فهو يشير إلى مستقبل "أقل ديمقراطيّة" كما يقول الكتاب. "فالأرستقراطيّة التكنولوجية للصناعات الرقميّة" تسيطر على المواقع العملاقة، ويذكر الكتاب مثالين لذلك: - شركة غوغل، التي تسيطر على تسعين بالمئة من الإعلانات على محرّكات البحث.  - وفيسبوك التي تسيطر على ثمانين بالمئة من وسائط التواصل الاجتماعي. ويقول إنّ عائدات هاتين الشركتين ومثيلاتهما تعادل ثلاثمئة ضعف
ما تنفقه على موظفيها.
وتؤكّد المعطيات والأرقام التي يذكرها الكاتب أنّ العولمة "تخدم مصالح الطبقات العليا" و"الأثرياء جدّاً"، بينما يفقد الكثير من العاملين وظائفهم بسبب انتشار التقنيات الحديثة، ويتوقّع أن يهدّد الذكاء الاصطناعي ملايين العاملين بهذا المصير. ويرى أنّ البروليتاريا تتحوّل إلى "بريكاريا" أي إلى انعدام اليقين وخوف العاملين الدائم من فقدان أجورهم والعجز عن سدّ رمقهم. وسيؤدي هذا الخوف، إضافة إلى تدنّي أجور العاملين، إلى تقويض الأسرة، ويذكر الكتاب أنّ نسبة العاكفين عن الزواج، والممتنعين عن الإنجاب تتزايد بسبب صعوبة إعالة طفل أو أسرة.
أمّا القضيّة التي نراها موضوعاً للجدال وتباين المواقف في دول أوروبا وأمريكا، وهي قضية المهاجرين، فيحلّل المؤلّف المواقف إزاءها، ويصل إلى أنّ الموقف الشعبيّ هو الاستياء من المهاجرين، بينما تميل النخب السياسيّة والاقتصاديّة إلى استقبالهم لأنّهم عمالة جيّدة قليلة التكلفة، ويذكر أن أربعين بالمئة من العاملين في وادي السيليكون هم منهم.
أمّا ما يعلنه القسم الثاني من عنوان الكتاب، وهو "تحذير إلى الطبقة الوسطى العالميّة" فهو نهاية الطبقة الوسطى، أو اقتراب نهايتها. ففي عالم العولمة يستمر تدهور الفئات المعنيّة بمصطلح "الطبقة الوسطى" لتتحوّل أعداد متزايدة منها إلى فقراء، إمّا عاطلون عن العمل بسبب استغناء التكنولوجيا المتطورة عنهم أو مجبرون على العمل بأجور زهيدة لا تكفي لإعالة أسرة أو حتى لضمان حياة عصريّة مقبولة للعامل ذاته.
ويمكن للقارئ أن يستنتج فداحة الضرر المجتمعيّ الناتج عن غياب الطبقة الوسطى أو ضعف دورها، فالفئات الوسطى لعبت على مرّ التاريخ دوراً رائداً في ميادين العلم والثقافة والسياسة، أي في تطور المجتمعات.
يحاول الكاتب ألّا يعطي كتابه أبعاداً أو دلالات سياسيّة مباشرة، فيقول في الصفحة الأولى: "هذا الكتاب ليس يمينيّاً ولا يساريّاً"، وأنّه "لا يرى هذه القضيّة آيديولوجية أو حزبيّة"، فهي - وفق منطق الكتاب - قضية تهمّ الناس جميعاً. ويعلن أنه استلهم "التقارير التي تغطّي ما يحدث في الأرض" وأنّه  "استمد الإلهام من التفكير بما كان محلّلو الماضي العظام: "الكسيس دي توكفيل، وكارل ماركس، وماكس فيبر، ودانييل بيل.. سيخلصون إليه بشأن الوضع الراهن".
ولكن، هل يمكن قراءة العولمة ونتائجها بمعزل عن الإرادة والرؤى السياسيّة للفاعلين في قيادة العالم إلى العولمة؟ وهل يمكن لملامح العولمة الإيجابيّة، وأبرزها الإفادة من النتائج العظيمة للتقدّم التقني، أن تحجب ما يقع على الشعوب من نتائج سلبيّة؟ وإذا كان عصرنا هو عصر انتقال الرأسمالية من مرحلة الإمبرياليّة إلى مرحلة العولمة فهل يمكن لشعوب البلدان الضعيفة والمتأخرة والتابعة التي تفاقمت أحوالها المأساويّة في مرحلة الإمبريالية أن تجد الطريق إلى أحوال أفضل إذا تعلّقت بأذيال عرية من عربات العولمة أو أنّ جوانب الرأسماليّة الإيجابيّة والسلبيّة التي برزت في المراحل السابقة ستتطور في مرحلة العولمة. وستتلظى الشعوب والفئات الفقيرة بنارها من دون أن تتنعّم بثمارها؟ الكتاب يفتح في ذهن القارئ نافذة للتفكير بذلك.

*كاتب وباحث سوري